السياسات بين الاستجابة والتخطيط

 كانت السياسة العامة دوما مفهوم فضفاض وواسع بالنسبة لي، فهي ليست إلا المخرجات الحكومية التي في غالب الأحيان والتي تكون محدودة المداورة والتتبع في منطقتنا العربية، إلا أنني خلال وبعد إنهاء متطلب تخصص جامعي تحت اسم “تحليل السياسات العامة” أصبحت أكثر قدرة على فهم الروابط الدقيقة في عملية صنع القرار التي لا ترتبط بالأنظمة الديمقراطية فقط  القادرة على تسيير ” سياستها العامة” ! بل بمنظور أوسع فإن السياسة العامة تدخل في العديد من النطاقات المؤسسية والمنهجية واللحظية أيضا حتى في أكثر الدول ديكتاتورية.

  فالسياسة العامة لها عدة تعاريف وتختلف باختلاف الأداة التي نريد أن نفهم السياسة العامة من خلالها فمثلا السياسة العامة هي  كل تصرف يصدر عن الحكومة من فعل أو قول  أو عمل وكل ما يندرج تحتهم فهو  قرار وكل مالا يصدر عن الحكومة من قول أو فعل أو عمل أيضا قرار ( ف اللا قرار هو إقرار للواقع )، أما إذا أردنا تعريف مختلف من هارولد لاسويل صاحب الكتاب الشهير Who gets what when & how فعرّف السياسة العامة من خلال مفهوم الموازنة  فهمن داخل المؤسسات سيأخذ وكيف ومتى؟ فكان تعريف لاسويل اقتصادي خدماتي، فالسياسة العامة تحدث نتاج الصراع ما بين وزير الدفاع والتعليم ومن يحتاج الحصة الأعلى في ميزانية الحكومة وكيف ستتم أوجه الصرف ولماذا يجب أن تُصرف بالمقام الأول، وبالرغم من استخدام مصطلح صراع إلا أن هذه الحالة تعتبر حالة تنافس صحي داخل جسم صنع السياسة العامة.

 هناك تعريف آخر يتعلق بجانب الاستجابة وكيف تتصرف الدولة وتتحرك ضمن طريقة استجابتها، فهناك نوعين للاستجابة، إما استجابة خطوة بخطوة وذلك  للتعامل مع حالة أزمات مستمرة تستوجب التحديث المستمر وغير المتوقع لخططها، والنوع الثاني هو الاستجابة الاستباقية ذات التخطيط المسبق للتعاطي مع الأزمات. ويمكننا بسهولة تصنيف بعض دول المنطقة العربية و بعض الدول الأوروبية من خلال هذا المفهوم للاستجابة.

 قد يعتبر البعض أن هذه المفاهيم وهناك غيرها الكثير قاموا باستبعاد الجانب الفكري للسياسة العامة، إلا أن هناك فرق بين السياسة العامة وعلم السياسة العامة  الذي يتعلق بالمنهج الفكري والأسس الفلسفية للنظام  أي الأسس المرجعية لفهم سلوك البلد لمعرفة طبيعة حركة السياسة العامة، وكلاهما يعملان بشكل غير منفصل بأحسن السيناريوهات.

 وفي كل الأحوال النظرية والعملية  لا يمكن النظر لحركة السياسة العامة باعتبارها Zero sum game  ، فالحكومة ليست بصدد فوز أو خسارة طرف باعتبارها ليست اللاعب الوحيد وقد تكون أضعف الأطراف في اللعبة أيضا! وذلك يتطلب حالة عالية من التوافقية بين الأطراف ومحاولة لتقبل فكرة أنه لا يوجد قرار حكومي سيسعد الجميع دائما مهما كان يحمل من قيم إيجابية عالية فسيكون هناك معارضين لا محالة سواء من أفراد، مؤسسات، شركات ضخمة أو دول، ويتعين على الحكومة أن تقوم بتحليل الردود المعارضة بما يكفي لمعالجة قرارتها القادمة وحالتها اللحظية.

 بيئة السياسة العامة وصنع القرار معقدة لكن قد يخال للبعض أنها تنطلق من منطقة محددة ورمادية، إلا أن بيئة السياسة العامة واسعة وتقسم كالتالي:

1)البيئة تنظيمية: أي كل ما يتعلق بهيكلية الحكومة وكيف تشكلت داخل نظام الدولة وما هي التعقيدات التي لديها لتأخذ قرار في مجلسها التشريعي لا يؤخذ من قبل نظام مشابه في قارة أخرى.

2)البيئة الاجتماعية: ما هي طبيعة التراكيب السكانية وكيف يؤثر تاريخ نشوء وتكور مجتمعها على قرارتها.

3)البيئة الاقتصادية: كل ما يتعلق بكيف يتحرك المجتمع اقتصاديا وكيف تفاعل سابقا بالأزمات والانفراجات الاقتصادية مما يعزز ذاكرة المؤسسة لفهم القرار الاقتصادي القادم

4)البيئة السياسية: وهي مركزية في فهم القرار لمعرفة محددات القرار السياسي والتأثير الواقع قبل صدوره من قبل الجماعات السياسية المتنوعة

5)البيئة الدولية: حيث يصعب في عالم اليوم فهم تحركات الدول بمعزل عن الاتفاقيات وطبيعة التعاونات والخصومات بين الدول

 لعل حقل السياسة العامة واسع جدا ويحمل العديد من المراحل والمحددات لفهم لماذا تتصرف الحكومة التي بطبيعة الحال دائما تعمل لمصلحة الدولة والفرق الجوهري يكمن في  الحكومة الديمقراطية وغير الديمقراطية حيث أن في النظام الديمقراطي تحصل محاسبة على نتائج السياسة العامة لكن في غير الديمقراطي لا توجد محاسبة بشكل كبير.

  وهذا يأخذنا لخطوة أساسية للسياسة العامة بعد سلسلة من الخطوات التي تحتاج العديد من النقاشات، ألا وهي التقييم فهي بشكل بسيط إعطاء مؤشر بين الوحدات والمتلقيين للقرار أو الخدمة التي تم تقديمها، ويُفترض أن أفضل من يُقيم أداء الحكومة هي الحكومة نفسها باعتبارها الأدرى بما نفذته،  لكن قيام الجهة نفسها بالتقييم يعني فساد أعلى، فالمعايير والأداة وكيفية القياس كلها بيد جهة معينة. فالتقييم بالأصل يحتاج تقييم آخر بعد جولات معارضة  فبالتالي هو دور سياسي أكثر مما هو إداري ويتطلب درجة عالية من الحرفية.

  وهناك العديد من الخيارات لما بعد التقييم أشهرها سياسة الترقيع أي إجراء صيانة لعمليات السياسة العامة بإبقاء القديم مع تعديلات حتى لو لم ينل رضى كبير، باعتبار أن وقف سياسة معينة هو أصعب ما قد يترتب على الحكومة كون الفشل الكامل يترتب عليها سلسلة إجراءات لا تستفيد منها الحكومة التي لديها مئات الملفات التي لا تستطيع بدء كلها من Square 1  في الفترات الزمنية المتاحة لها.