قد يبدو في البداية أن الفيزياء والاقتصاد عالمان منفصلان، لكن قد نرى أنهما يجمعهما علاقات تشاركية مثيرة للدهشة. فسوق الأسهم، وهو نظام معقد حيث يتم فيه تبادل مليارات الدولارات يوميًا، قد ننصدم أنه يسير ضمن سلوكيات تشبه سلوكيات الظواهر الفيزيائية. ويتجه الكثير من المحللين الماليين بشكل عام إلى محاولة فهم بعض النظريات العلمية أو التعمق في مفاهيم متعددة من تخصصات علمية أخرى، وإسقاطها على سلوك سوق الأسهم ليساعدهم على تصور وتخيل طبيعة حركته، حيث إن اعتماد التفكير الموسوعي أمر بالغ الأهمية ويساعد على فهم الظواهر التي لا يمكن فهمها بسهولة وتحديدًا في القطاع المالي. وكثيرًا ما تتصرف سوق الأوراق المالية بطريقة عشوائية للغاية ولا يمكن التنبؤ بها، مما يجعل من الصعب جدًا معرفة إلى أين تتجه الأسعار وكيف ستكون طبيعة حركتها.
أحد المفاهيم الأساسية في كل من الفيزياء وسوق الأوراق المالية هو النظرية العشوائية. ففي الفيزياء، حركة السير العشوائي، حيث تسلك الجسيمات مسارات غير منتظمة بسبب الاصطدامات مع الجزيئات المحيطة بها. وعلى نحو مماثل، ففي الاقتصاد وسوق الأسهم تشير نظرية السير العشوائي إلى أن أسعار الأسهم تتبع نمطًا عشوائيًا، مما يجعل من الصعب جدًا التنبؤ بدقة بحركات المستقبل. وهذه النظرية، التي اقترحها عالم الرياضيات لويس باتشيلير في عام 1900، وضعت الأساس لوضع النماذج المالية الحديثة حيث أنها ساعدت الاقتصاديين والمتخصصين في علوم الإحصاء والاحتمالات على فهم أسواق الأسهم بشكل أكثر دقة. لأن عشوائية سوق الأوراق المالية لا تختلف عن عشوائيات عالمنا، وهنالك العديد من أوجه الشبه مع كافة الظواهر الطبيعية التي نشهدها في حياتنا.
في كتاب “Ubiquity: لماذا تحدث الكوارث” بقلم مارك بيوكانان، يشير مفهوم النقاط الحرجة إلى عتبات أو نقاط تحول داخل نظم معقدة، تحدث بعدها تغييرات كبيرة ولا يمكن التنبؤ بها في كثير من الأحيان. وبينما يركز الكتاب في المقام الأول على الظواهر الطبيعية والنظم المعقدة مثل أنماط الطقس والزلازل والنظم الإيكولوجية، يمكن أيضًا تطبيق فكرة النقاط الحرجة على ديناميكيات أسواق الأسهم.
على سبيل المثال، كل الزلازل تبدأ في نفس الظروف، ولكن لا يمكن توقع أثرها. تتكون الزلازل نتيجة حركة الصفائح الغلاف الصخري للأرض. تتحرك هذه الصفائح بشكل دائم وغالبًا ببطء شديد؛ نتيجة لهذه الحركة وتلامس الصفائح يتولد ضغط عالٍ جدًا عندما تحتك مع بعضها البعض. عندما تفوق قوة الضغط عن قوة الاحتكاك، تنزلق هذه الصفائح وتطلق طاقة مولدة بذلك الهزة الأرضية. ومع أن العلماء قد أحرزوا تقدمًا كبيرًا في فهم أسباب الزلازل وآثارها، فإن التنبؤ بدقة بموعد ومكان وقوعها لا يزال يشكل تحديًا كبيرًا. اكتشف العلماء لاحقًا أنه عندما تصل صفائح الأرض إلى نقطة حرجة، لا يمكن التنبؤ بالقوة التي نتجت عن الزلزال. والظروف نفسها يمكن أن تبدأ زلزالًا قويًا جدًا، ويمكن أيضًا أن تبدأ زلزالًا لا يشعر به. ثم استنتج العلماء أن هناك قانون قوة يفسر هذه الظاهرة، بمعنى أنه كلما ازدادت قوة الزلازل، تصبح أقل تواترًا.
غالبًا يمكن تفسير الانهيارات عن طريق اعتبارها قائمة على ناحية فيزيولوجية، حيث أنها محصلة لأفكار وآراء جميع المستثمرين. في شكل بسيط، العملية قد تسير هكذا: أحد المستثمرين لا يشعر بالرضا عن السوق، ويعتقد أن الاقتصاد في طريقه إلى ركود. وسرعان ما يتم تقاسم الآلاف من اعتقاد هذا المستثمر الفردي، والسوق دليل على ما يفكر فيه الجميع بشأن الأسعار المناسبة للشركات. والأفكار في الصناعة المالية معدية، لأنها صناعة قائمة على المعلومات، وسهولة تناقلها جعل من السهل أن يتواصل العاملون في قطاع الاستثمارات المالية ويتبادلون أفكارهم. هذه السهولة في التواصل جاءت بتحديات جديدة على سوق الأسهم حيث أصبح تقلب المزاج العام للمستثمرين أكثر سرعة وسهولة. أثبتت العديد من الدراسات أن البشر يميلون إلى تصديق واعتقاد ما يعتقده الآخرون، والذي أوضحه على أفضل وجه روبرت تشالديني، وهو عالم نفس أمريكي في جامعة ولاية أريزونا، بقوله إن هناك نزعة لدى البشر تسمى بـ ‘الإثبات الاجتماعي’؛ الناس يميلون إلى الاعتقاد بما يعتقده الآخرون. يتكوّن انهيار في سوق الأسهم بسبب ذعر المستثمرين من احتمالية ركود وانكماش الاقتصاد أو لأي سبب آخر كالأوبئة، لكن حتى هذه اللحظة لا يوجد أي نموذج يمكنه التنبؤ بمقدار انهيار السوق ولا بموعده. بعد دراسة معمقة من قبل المتخصصين في هذا المجال، استطاعوا أن يفسروا اختلاف شدة الانهيارات بأن سوق الأسهم يتبع أيضًا قوانين القوة الرياضية، مما يشير إلى أنه كلما كبر حجم الانهيارات كانت احتمالية حدوثها أقل.
ومن حيث الجوهر، فإن العلاقة بين الفيزياء والعلوم الطبيعية وسوق الأسهم هي مثال على ترابط المجالات المعرفية والتخصصات على اختلافها، مما يدعونا إلى استكشاف أوجه التقاطع بين التخصصات والكشف عن سبل جديدة للتحري وفهم العالم من حولنا في عالم أصبحت صفته الأساسية هي التعقيد والتشابك. وإن الأخذ بالنظرة الموسوعية يثري فهمنا للأسواق المالية، وهذا كله ينصب في صالح صنع قرارات أكثر فاعلية في مجالات التمويل والاقتصاد.