على مر العصور، كانت المياه العامل الأساسي الذي يغذي شرايين الحضارات، فهي ليست مجرد مورد طبيعي، بل هي السبب الرئيسي لازدهار الزراعة والصناعة والتجارة، وتشكل الدعامة الأساسية لتكوين البنية الاجتماعية للحضارات والدول. عبر التاريخ، كانت المياه وأماكن تواجدها محورًا لتواجد الإنسان، وكلما زادت وفرتها، زادت فرص الحضارات للتقدم والتطور.
أما حالياً و مع تزايد عدد سكان الأرض وارتفاع درجات الحرارة بمقدار درجة ونصف، وفقاً لتقديرات الهيئة العالمية لمراقبة المناخ، نتيجة للثورة الصناعية والعوامل الأخرى لتغير المناخ، تشهد معدلات التبخر واستهلاك المياه تزايداً ملحوظاً. هذا الوضع يشكل ضغطاً كبيراً على مصادر المياه العذبة المتاحة للاستخدام البشري، والتي تشكل حوالي 2.5% فقط من إجمالي مياه الأرض، وفقاً لخبراء منظمة اليونسكو. هذه المعطيات تشير إلى احتمال زيادة فرص نشوب صراعات بين الدول على المياه في المستقبل.
شهدت العديد من الدول تحولاً كبيراً في اقتصادياتها من الزراعة إلى الصناعة، إلا أن هذا التحول جاء بتكلفة باهظة تمثلت في زيادة الطلب على المياه. فبينما كانت الزراعة تعتمد على كميات محدودة من المياه، تطلبت الصناعات الناشئة كميات هائلة من المياه لتلبية احتياجاتها المتنوعة مثل التبريد، والتنظيف، وإنتاج المواد الكيميائية، وغيرها. هذا التحول الصناعي ضاعف من استهلاك الموارد المائية، مما أضاف تحديات جديدة تتعلق بإدارة المياه وتوفيرها بشكل مستدام.
لقد أصبح تلوث المصادر المائية، خصوصاً المياه الجوفية، قضية مقلقة نتيجة لبعض الأنشطة الصناعية. فعلى سبيل المثال، تُعد صناعة الملابس من أكبر مستهلكي المياه في العالم، كما أنها تساهم في تلوث المياه الجوفية من خلال استخدام الأسمدة الكيميائية في زراعة القطن. عند هطول الأمطار، و يمكن أن يتسرب بعض من هذه الأسمدة إلى التربة ويصل في النهاية إلى المياه الجوفية، مما يؤدي إلى تغيير في جودتها العامة.
إضافة إلى ذلك، فإن تراكم النفايات الناتجة عن الصناعة يمكن أن يُحدث تأثيرات سلبية. ففي بعض الحالات، قد تنتج عن هذه النفايات عصارات يمكن أن تتسرب إلى التربة، وخاصة في مكبات النفايات التي قد لا تكون مجهزة بشكل كافٍ لمنع هذه التسربات. و هذه الحالات قد تؤدي إلى بعض التحديات البيئية، بالإضافة إلى احتمالية انبعاث غاز الميثان من تلك المكبات، مما يتطلب اهتماماً خاصاً لضمان حماية البيئة.
وتماماً كما كانت الأراضي سبباً للصراعات في الماضي، أصبحت المياه الآن موضوعاً للتنافس بنفس الأهمية. فالدول التي تتشارك في الأنهار العابرة للحدود تجد صعوبة في التنسيق بسبب اختلاف سياساتها المائية، وتباين مصالحها الاقتصادية، وأولوياتها في استخدام المياه، سواء لتوليد الكهرباء أو للشرب أو للصناعة والزراعة.
من أبرز السياسات التي تؤدي إلى الخلاف بين الدول حول المياه الإقليمية هي تلك المتعلقة ببناء السدود. فعند بناء سدود على الأنهار المشتركة، تتمكن دول المنبع من التحكم بكميات المياه التي تصل إلى دول المصب، مما يثير التوترات بشأن توزيع الموارد المائية. مثال على ذلك سد النهضة الذي يشكل مصدر خلاف بين مصر والسودان وإثيوبيا، وكذلك السدود التي بنتها تركيا على نهري دجلة والفرات، مما يؤثر على تدفق المياه إلى العراق وسوريا.
وللتغلب على النزاعات التي قد تنشأ بين الدول، يجب إجراء حوار مفتوح عالمياً لبناء الثقة وتعزيز التعاون من خلال اتفاقيات مشتركة والالتزام الصارم بها. فغالباً ما تكون النزاعات نتيجة عدم الالتزام بنصوص الاتفاقيات القائمة. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي النظر في تنفيذ مشاريع مشتركة لاستثمار المياه في مجالات مثل الطاقة المتجددة والزراعة، وفقاً لاحتياجات كل دولة. كل هذه الخطوات تسهم في الوصول إلى حلول مشتركة وتجنب النزاعات التي قد تتفاقم إلى صراعات أكبر في المستقبل.