دائمًا ما كانت هناك مشكلة أو صعوبة في جمع المفردات اللازمة لتعريف ماهية السياسة، خاصة إذا اجتمعت السياسة مع أشقائها في الحقول الأخرى وبدأ سؤال: أيهما أتى أولًا؟ فنرى محاولات لإضفاء حالة من البديهية، باعتبار أن السياسة هي رد فعل لا مبتدأ في عمليات التفاعل الإنساني، سواء البسيطة منها أو المعقدة. أو أنها عملية دخيلة دائمًا، لها آثار غير مفهومة ومتراكمة ولا تستطيع الاختباء بدون رؤية أثر واضح منها يُعمم على أي شريحة تخطر على بالك. ولكن هنا يطرأ سؤال حول حالة اللامفهومية التي تربك فهمنا لحجم التشابك الناتج من الحقول الإنسانية، الألعاب الدقيقة في السيطرة، وتمييع المعلومة وإعادة خلقها وإحيائها لتتماشى مع أي حالة كانت للمادة سواء بسيولتها أو صلابتها. وهذا يجعل من المشاهد البعيد، الذي يجهل حجم التداخل في عالم السياسة وأبسط شؤون النفس الإنسانية، يُلقي اتهاماته مع شيء من اللوم على كل ما يرتبط اسمه بالسياسة.
فالسياسة غير المرئية التي نعنيها هي كل عقدة تربط الخيوط الإنسانية، والاقتصادية، والاجتماعية مع بعضها البعض. هي الإطار والقطعة الأخيرة في أحجية من 1000 قطعة وأكثر؛ فأنت لا تستطيع أن تبدأ بلا تأطير لتحركاتك ولا يمكنك أن تقول إنك أنهيت التركيب بلا امتثال لقواعد اللعبة كاملة بتشكيل لوحتك النهائية. هي حلقة ليست مفرغة لكنها صعبة التتبع، تستلزم استعدادًا عاليًا لممارسيها ولرواد تجربتها للغوص في غمار الأرقام والأصفار الكثيرة التي تُترجم لشروحات بمئات الصفحات على مكاتب محلليها، وتصبح مساءً قرارًا يستفز العامة ويثير حفيظتهم على ممتهني هذه اللعبة الحساسة.
وذلك يأخذنا لمحاولة جامحة في فهم الروابط الدقيقة بين السياسة والتكنولوجيا، أو على الأقل طرح بعض التساؤلات البسيطة في هذا الباب. فإن كلا المجالين دخلا المجتمع من أكثر الطرق غير المرئية وبأكثر الوسائل غير المعتادة، وبأسرع تأثير متوقع وأبطأ فهم إنساني بَعدي ممكن لها. فنجد كل من لا يفهم الحالة التي تشكلها “اللعبة السياسية من أطراف غير محدودين وبنفع وأرباح أكبر من المتوقع”، أو “صعود العملة الرقمية وتأثيرها على السلوك الشرائي في الساعة 8 مساءً” يستنكر محاولة الفهم، فضلًا عن الدخول في عالم استثمار الفرص الضائعة فقط. وهذا ما يبعده عن فهم هذه العوالم التي باتت أشبه بمصانع تحكم عالمية تُصدر لنا القيم والاستحقاقات البشرية بناءً على جدول زمني محدد مسبقًا للبشرية.
فمع استخدام هذا الدخيل التقني الجديد، لم يعد السياسي هو فقط صاحب النظريات والحيل النفسية للتحكم بمجتمعه الضيق، بل أصبح أشبه بمن يستخدم Boosters ليتمكن من تسهيل المرحلة رقم 45 في اللعبة التي يحتاج أن يتفوق فيها على منافسيه في قائمة الترتيب (Ranking). وهذه الوسائل التقنية لا تعني بالضرورة الصورة والفيديو فقط، بل هي مجموع استيعاب الوجود الرقمي للكم الهائل من البشر في أوقات متشابهة وفي أكثر الأماكن قدرة على التخلي عن ردائهم المجتمعي المعتاد. وهذا يتيح للسياسي تتبع أهم ما نحتاجه اليوم في هذا العالم الديناميكي الذي لا يهدأ وهو “الخطوة التالية Next step”. ولعل هذه الجملة كانت سببًا من أسباب السقوط للأفراد والحضارات التي لم تتمكن من الإجابة عن هذا التساؤل عندما وُضعت في حيز الماهية التساؤلية.
إن إدراك هذا الكم الضخم من الزخم المعرفي والإنساني على الوجود الرقمي يغير حقيقة التحكم ككل، ومدى تحديد صعوبته من سهولته. فها هي أبسط التغريدات من قبل فتاة ذات 16 عامًا تجمع حولها جميع من يرون فيها المرآة لتصرفاتهم الدفينة التي تم التعبير عنها أخيرًا، أو العكس تمامًا في مقطع ريلز لشاب ثلاثيني يجمع ملايين الأحقاد والنزعات النفسية والمجتمعية الكامنة في حارة صغيرة في دولة ما. هذه الأمثلة ليست بسيطة، بل كان تبسيطها ضرورة لمعرفة حجم ما يمكن جمعه على الإنترنت في دقائق، وما يترتب على تحليله من مفاجآت جديدة في علم البيانات، الذي لا يمكننا تخيل السقوف التي اخترقها من مليارات تفاعلات البشر على الإنترنت.
واليوم في عالم السياسة العالمي، نرى كيف أن هذه الطبخة وُضعت على النار منذ زمن طويل، ولكن ليست لأغراض القمع فقط، بل لتوجيه وتخصيص التجارب الجمعية البشرية وتأطيرها ضمن سياسات معمول بها سابقًا أو سيتم العمل بها. قد يعتقد البعض أن هذا يُعتبر تحايلًا أو تلاعبًا بالعامة، لكن من الأجدر القول إن عدم فهمنا لأدوات التقنية جعلنا أدوات لها، وأدوات بيد كل من أدرك الحدود التي تصل لها بواسطة التوجيه المحدد المعالم والنهايات.