تاريخيًا، كان السعي للحصول على أراضي جديدة وإضافية للدول مدفوعًا بالحاجة إلى مساحة زراعية والحصول على المعادن والموارد الطبيعية الأخرى. فكلما زادت الأراضي التي تمتلكها دولة ما، زادت قدرتها على دعم عدد كبير من السكان، وبناء جيش هائل، وتوليد الثروة. فعززت هذه الفكرة التوسعات الاستعمارية للقوى الأوروبية، والطموحات الإمبراطورية لمختلف السلالات والممالك حول العالم. ويمكننا القول انه كان توسع الأراضي في كثير من الأحيان مرادفًا للقوة و الازدهار.
ولم تكن الأرض مجرد أصل مادي، بل كانت رمزا للقوة الوطنية. اندلعت الحروب، وتم التوقيع على المعاهدات، وأعيد رسم الحدود في سعي لا هوادة فيه لتحقيق مكاسب إقليمية. وكانت القيمة المتأصلة للأرض واضحة: فهي مصدر للغذاء، وأصل عسكري استراتيجي، ومستودع للموارد الطبيعية التي يمكن أن تغذي النمو بكافة أشكاله.
واليوم، يشهد العالم تحولاً جوهرياً في ما يشكل الثروة والقوة الوطنية. ففي عصر المعلومات أصبحت فيه الأصول المعنوية مثل المعرفة والإبداع والبراعة التكنولوجية هي المحرك الأساسي للتقدم الاقتصادي والاجتماعي. وهنا أصبح للنموذج القديم الذي يرتكز على الأصول المادية أهمية أقل وتتضاءل مع مرور الوقت، في حين ترتفع قيمة رأس المال الفكري والإبداعي إلى عنان السماء.
ويهيمن على الاقتصاد العالمي اليوم تقريباً التكنولوجيا والصناعات الموجهة نحو الخدمات. ولقد تجاوزت شركات مثل جوجل، و أبل، وأمازون، التي تعتمد بشكل كبير على الملكية الفكرية والإبداع، الشركات الصناعية التقليدية العملاقة من حيث القيمة السوقية. ويعكس هذا التحول اتجاهاً أوسع حيث أصبحت الأفكار والابتكار هي العملة الجديدة للقوة.
وتستثمر الحكومات والشركات في التعليم والبحث والتطوير لتنمية وتسخير رأس المال الفكري هذا. إن البلدان التي تتفوق في تعزيز الإبداع والتقدم التكنولوجي بدأت تظهر كقادة جدد على الساحة العالمية. فلقد أصبحت دول مثل كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة، على الرغم من مساحتها المحدودة، قوى اقتصادية من خلال تركيزها على الابتكار والتعليم.
وقد لعب صعود التقنيات الرقمية والاتصال العالمي دوراً محورياً في هذا التحول. فلقد أتاح الإنترنت وصولاً غير مسبوق إلى المعلومات والتعليم والمعرفة. وإن التقدم في تكنولوجيات الاتصالات والنقل جعل من السهل تطوير الأفكار المبتكرة وطرحها في الأسواق بسرعة. وقد أدى هذا إلى تقليص الحواجز التقليدية أمام الدخول في السوق إلى حد كبير، مما سمح حتى للشركات الناشئة الصغيرة بالمنافسة على نطاق عالمي.
وفي حين يقدم عصر ما بعد الدولة فرصا هائلة، فإنه يطرح أيضا تحديات جديدة على التراكم البشري. فيمكن أن تؤدي الوتيرة السريعة للتغير التكنولوجي إلى غياب للعدالة، وقد تجد البلدان والمجتمعات التي تفشل في التكيف نفسها متخلفة عن الركب في هذا المشهد الجديد. على سبيل المثال، قد يؤدي الانتشار السريع للتكنولوجيا إلى فجوة رقمية بين الدول والمجتمعات التي تمتلك التقنيات الحديثة وتلك التي لا تمتلكها. يمكن أن تساهم هذه الفجوة في تفاقم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، مما يزيد من عدم المساواة ويحد من فرص التنمية المستدامة.
وهذا لا يعني أن الحسابات الأمنية والعسكرية قد سقطت من أجندة الدول أو أنها لم تعد تهتم بالأراضي والتوسع وتأمين حدودها. على العكس، لا تزال الدول تعتبر هذه المسائل حيوية ومهمة. لكن في هذا العصر الجديد، أصبحت هذه المسائل أقل أهمية بشكل عام، وتركزت بدرجة أكبر حول الملفات الأمنية المعقدة والمترابطة. ولقد تطور مفهوم الأمن ليشمل مجالات جديدة مثل الأمن السيبراني، الذي يتجاوز الحدود الجغرافية التقليدية ويتطلب التعامل مع تهديدات رقمية متقدمة ومعقدة.
في عصر ما بعد الدولة، لم يعد التوسع الإقليمي هو المفتاح لتحقيق النفوذ والقوة. بدلاً من ذلك، أصبح اقتصاد المعرفة هو العنصر الأساسي لتحقيق النمو والازدهار. تركز الدول اليوم على الابتكار، والتكنولوجيا، والتعليم، والبحث والتطوير كوسائل لتحقيق التفوق الاقتصادي. إن الفوائد والمردود الاقتصادي الناتج من اقتصاد المعرفة تفوق بكثير الفوائد التقليدية للطرق التقليدية التي رافقت نشأة مفهوم الدولة.
الاستثمار في التكنولوجيا والتعليم يعزز من قدرات الدول على المنافسة في الاقتصاد العالمي، ويتيح لها الوصول إلى أسواق جديدة وموارد غير مستغلة. الأمن السيبراني، والتعاون الدولي، والتحول نحو الاستدامة، كلها تعكس التغيرات في الأولويات الأمنية والاقتصادية للدول في هذا العصر الجديد.
يمكن القول إن عصر ما بعد الدولة يمثل تحولاً كبيراً في كيفية تحقيق الدول لأهدافها الاستراتيجية. هذا التحول يعكس الفهم الجديد للقوة والنفوذ في عالم متشابك ومتصل، حيث الأفكار والابتكار والمعرفة هي المحركات الأساسية لتحقيق النجاح والتفوق.