الانتقال نحو التحكيم الإلكتروني

في ظل التطور الاقتصادي الكبير الذي يشهده العالم، والذي يحدث تغيرات مجتمعية عميقة ومستمرة، مازال يتجه العالم نحو الزيادة في التداخل والالتقاء بين الأنماط الاقتصادية والاجتماعية المختلفة عالمياً،. إن اقتصاد اليوم، بتعقيداته، يتمتع بترابطات واتصال بين الجميع في كافة المجالات تقريبا. ولذلك، لا بد من مراقبة هذه التحولات وادارة وحماية تطورها، وخاصة عندما أصبح تطور اقتصادات السوق المفتوحة ونمو القطاع الخاص المركزية الأساسية في اقتصادات الدول والذي يساهم بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي الوطني لكل الدول.

يلعب رأس المال الاستثماري دائمًا دورًا محوريًا في النمو الاقتصادي للدول. وتسعى الدول إلى توفير المتطلبات اللازمة لتوفير البيئة الملائمة في القطاع الخاص وحمايته وتعزيز دوره في الاقتصاد. ومن أجل الحفاظ على الأمن الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية، يجب على البلدان تكييف أنظمتها القانونية لتتماشى مع هذه التحولات الاقتصادية. ويتطلب ذلك اعتماد أطر قانونية صديقة للاستثمار تخلق بيئة مواتية للمستثمرين.

ومن الأنظمة القانونية الصديقة للاستثمار يأتي التحكيم، حيث يلجأ الأطراف في نزاع معين إلى حل النزاع خارج إطار المحاكم التقليدية. أما التحكيم الإلكتروني، فهو استخدام الوسائل الإلكترونية في عمليات التحكيم، وهو أحد تجليات التكنولوجيا القانونية وجزء من العولمة الاقتصادية والقانونية. يرتبط التحكيم ارتباطاً وثيقاً بالقطاع الخاص، حيث تسعى مؤسسات هذا القطاع لعقد اتفاقيات تحكيم في جميع شؤونها القانونية. يتميز التحكيم بمرونته التي تُسرع من عمليات التقاضي وتجنب الشركات البيروقراطية المرتبطة بالمحاكم التقليدية. تحتاج الشركات الكبرى، ضمن أطر عملها الداخلي والخارجي، إلى التحكيم الإلكتروني في عمليات الاستيراد والتصدير وعلاقاتها مع الشركات الأجنبية. لذلك، يعد التحكيم الإلكتروني مفتاحاً مهماً ومركزياً في تعزيز العلاقات الاقتصادية الدولية.

ومع تبني الدول للتحكيم الإلكتروني وتكيفها معه، فإنها تخطو خطوة  نحو تعزيز بيئة قانونية أكثر كفاءة وسهولة وشفافية.

هذا التطور لا يعزز فقط آفاق الاستثمار الأجنبي، بل يدعم أيضًا نمو واستقرار القطاع الخاص، مما يمهد الطريق لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة في عالم يزداد في الترابط. يسهم تبني التحكيم الإلكتروني في تقليل التكاليف والإجراءات البيروقراطية، ويوفر حلولًا أسرع وأكثر فعالية للنزاعات، مما يعزز الثقة في النظام القانوني ويشجع على جذب المزيد من الاستثمارات والحركات التجارية.

وعلى غرار الأدوار التنموية الاقتصادية والاستثمارية، يلعب التحكيم الإلكتروني دوراً محورياً في تحقيق التنمية المستدامة من خلال تأثيره الإيجابي على المناخ والتوازن البيئي. تتميز طبيعة التحكيم الإلكتروني بإمكانية إجراء كامل عملية التقاضي إلكترونياً، بدءاً من المرافعات وصولاً إلى إصدار الحكم، مما يقلل بشكل كبير من بيروقراطية العمل القضائي بفضل المرونة التي يقدمها، ويسرّع المعاملات القضائية المرتبطة بالعمل التجاري للمستثمرين. هذه المرونة توفر حلولاً فعّالة تُسهم في تطوير التجارة الدولية وتخفيف العوائق المرتبطة بها.

علاوة على ذلك، يساهم التحكيم الإلكتروني في تقليل حركة النقل الدولية، وذلك من خلال أتمتة العمليات التي تتطلبها إجراءات التحكيم التقليدي. على الصعيد العالمي، انطلقت عدة حملات تهدف إلى أتمتة التحكيم لتقليل حركات الطائرات والهدر المرتبط بتنقل المحكمين والشركات، مما يقلل من انبعاثات الكربون. على سبيل المثال، أطلقت المحكّمة الأمريكية لوسي جرينوود في عام 2019 حملة “The Campaign for Greener Arbitrations” التي تهدف إلى تقليل البصمة الكربونية في مجتمعات التحكيم من خلال تفعيل التحكيم الإلكتروني. وقد وقع على هذه الحملة أكثر من 1602 محكم من أنحاء العالم.

توجد حاجة ملحة لتنسيق حملات مماثلة في الأردن والشرق الأوسط لتعزيز التحكيم الإلكتروني، بالإضافة إلى ضرورة تنظيم التشريعات الوطنية لدعم هذا النوع من التحكيم. تسهم هذه المبادرات في تقليل التأخير والتكاليف المرتبطة بالنزاعات القانونية، وتحسين كفاءة عمليات التجارة الدولية، مما يعزز التنمية المستدامة ويحافظ على البيئة من خلال تقليل انبعاثات الكربون الناتجة عن السفر ونقل البضائع.