شهد الاقتصاد العالمي نمواً غير مسبوق على مدى العقود القليلة الماضية، مدفوعًا في المقام الأول بقوى العولمة. وقد أدى التقدم التكنولوجي وتقليص الحواجز التجارية بين الدول إلى تسهيل تبادل السلع والخدمات ورؤوس الأموال بشكل أسرع وأكثر مرونة، مما أدى إلى شكل من أشكال التكامل في النمو الاقتصادي، وزيادة الترابط بين الاقتصادات المحلية، وخلق شبكة معقدة من العلاقات الاقتصادية التي تمتد عبر العالم.
وزاد عدد الدول التي تتبنى مفهوم سوق الاقتصاد المفتوح على مدار العقود الماضية، وقامت بالانخراط في تحرير سياساتها التجارية، الأمر الذي تضمن خفض التعريفات الجمركية وتسهيل التشريعات الجاذبة للاستثمارات الأجنبية. وقد أدى هذا الانفتاح إلى تعزيز التنافسية في الأسواق العالمية التي تترابط فيها الدول، ويتطلب ذلك دائمًا من الدول التكيف السريع مع متغيرات ظروف الأسواق العالمية.
ومع توسع الأنشطة الاقتصادية العالمية وتطور أشكالها، يتطلب وجود أطر قانونية مرنة تتطور بشكل موازٍ لتحكم التجارة الدولية والتعاون الاقتصادي. على مر العقود الماضية، تم تطوير العديد من المعاهدات والاتفاقيات القانونية ومجموعة من الهيئات والمنظمات الدولية لتنظيم عمل التبادلات التجارية والحركة الاقتصادية.
جلب التحول الرقمي تفاعلات اقتصادية و تعاملات تجارية بأشكال جديدة ومختلفة، وأصبحت تزداد وتستقر شيئًا فشيئًا في الفضاء الإلكتروني. وفي كل يوم، تدخل شريحة سكانية جديدة إلى هذا العالم، ولم يعد احتكار الحركة الاقتصادية العابرة للدول والحدود يقتصر على الدول أو على الأفراد ذوي الدخل المرتفع، بل أصبح عامة المواطنين من مختلف الدول يشكلون اليوم جزءًا لا يمكن إغفاله من التعاملات التجارية، حيث ازدادت المواقع المخصصة للعمل الحر و الفريلانسرز والتجارة الالكترونية. تتميز هذه المواقع بكثرة المعاملات التجارية صغيرة الحجم العابرة للدول بين مواطنين يعيشون في مناطق مختلفة. ومع ذلك، ظهرت تحديات تنظيمية لسير انتقال المال والعمل بين الأطراف المعنية. كيف يمكن السيطرة على تجاوزات البعض في عدم إتمامهم الدفع أو تقديمهم لعمل ناقص أو يشوبه بعض المشاكل ويختلف عن المتفق عليه بين الأطراف منذ البداية؟ هل سيقوم مواطن يسكن في الأردن بالسفر إلى البرازيل لمقاضاة برازيلي للحصول على تعويض بقيمة 15 دولارًا لعدم إتمام البرازيلي للعمل المتفق عليه مسبقًا على أتم وجه بتصميم فيديو مدته دقيقة، وتحمل تكاليف السفر وتوكيل محامٍ في البرازيل والصبر لأشهر حتى يحكم له بالقضية؟ الأمثلة لا تنتهي، وهنا نلاحظ وجود مساحة جديدة من التحديات التي تواجه أشكال الاقتصاد الجديدة هذه.
تحاول بعض الشركات الريادة بناء شكل جديد من القضاء بجسم منفصل عن الحالة المرتبطة بجغرافيا دولة معينة، وحتى تتجاوز فكرة المحاكم الدولية التي تتبع القانون الدولي العام، لتصل إلى بناء محاكم لامركزية تتبع شركات خاصة. يتجه فيها الأفراد على اختلاف معاملاتهم المالية وقيمتها. الفكرة المهمة هي أن الدعاوى المالية صاحبة المبالغ الصغيرة نسبيًا تجد مكانًا لها، ويقوم الأطراف ببناء عقد يتم الإشراف عليه من قبل الجسم اللامركزي الثالث، ويتم كتابة بنوده بواحدة من لغات البرمجة ويسمى بالعقد الذكي، ويتمثل بفكرة التنفيذ التلقائي.
العقود الذكية هي برامج تعمل على البلوك شين وتنفذ تلقائيًا شروط اتفاقية محددة مسبقًا بين الأطراف المختلفة. تُبرمج هذه العقود بحيث يتم تنفيذ البنود والشروط تلقائيًا عندما يتم استيفاء شروط معينة، مما يلغي الحاجة إلى الوسطاء ويقلل من فرص التلاعب أو الاحتيال. تعتمد العقود الذكية على شفافية وأمان تقنية البلوك شين، حيث يتم تسجيل كل خطوة في العقد بطريقة غير قابلة للتغيير.
أما تقنية البلوك شين فهي نظام رقمي يسجل البيانات بطريقة آمنة وشفافة عبر شبكة من الأجهزة المستقلة. يتم تخزين البيانات في سلسلة من الكتل (بلوكات)، حيث ترتبط كل كتلة بالكتلة السابقة من خلال شفرة خاصة، مما يشكل سلسلة غير قابلة للتغيير بسهولة. تتيح هذه التقنية تسجيل المعاملات بشكل لا مركزي، مما يعني أن البيانات لا تُخزن في مكان واحد بل يتم توزيعها عبر شبكة من الأجهزة التي تتحقق من صحة البيانات وتوافقها. يُستخدم البلوك شين في مجموعة متنوعة من التطبيقات، من العملات الرقمية إلى العقود الذكية، وتوفر هذه التقنية مستوى عالٍ من الأمان والشفافية والثقة في البيانات المخزنة.
تشبه خاصية البلوك شين نظام حفظ السجلات. تخيل دفتر ملاحظات مشتركًا يمتلك كل شخص نسخة منه، وعندما يضيف شخص ما معلومات جديدة، يتم تحديثها في دفتر ملاحظات الجميع في وقت واحد. في سياق المحاكم اللامركزية، تساعد تقنية البلوك شين على إنشاء طريقة آمنة وشفافة لتخزين المعلومات القانونية. يتم تسجيل كل قضية أو حكم أو معاملة في كتلة، وترتبط هذه الكتل معًا في سلسلة، مما يجعل من المستحيل تقريبًا تغيير السجلات السابقة دون تغيير السلسلة بأكملها. هذه الطبيعة اللامركزية تعني عدم وجود سلطة واحدة مسيطرة؛ وبدلاً من ذلك، يتم توزيع المعلومات على الجميع الموجودين في النظام، مما يجعلها مقاومة للتغيير. تضمن هذه التكنولوجيا الثقة والشفافية في العمليات القانونية، مما يقلل الاعتماد على السلطة المركزية وربما يحدث ثورة في الطريقة التي نتعامل بها مع العدالة.
إن نشوء فكرة المحاكم اللامركزية يمكن أن يكون له آثار حقيقية على مفهوم العدالة، ودور الدولة، وفهمنا لحقوق المجتمع والأفراد. تقليديًا، كانت القدرة على الفصل في النزاعات وظيفة أساسية للدولة وترتبط ارتباطًا وثيقًا بسيادتها. تتحدى المحاكم اللامركزية هذه الفكرة من خلال تحويل بعض السلطات القضائية بعيدًا عن المؤسسات التي تسيطر عليها الدولة إلى شبكات لا مركزية عالمية في كثير من الأحيان. قد يؤدي هذا إلى إعادة التفكير في ما يشكل سيادة الدولة، خاصة فيما يتعلق بإقامة العدل.
تجسد المحاكم اللامركزية تحولًا نحو شكل عدالة أكثر تشاركية، حيث يمكن لأفراد المجتمع المساهمة بشكل مباشر في النتائج القضائية. تتحدى هذه الفكرة النهج التقليدي من أعلى إلى أسفل تجاه الأنظمة القانونية، وتؤكد على مشاركة جماعية أكثر شعبية في صنع القرار القانوني.
ومما لا يدعو للشك أن هذه التغييرات الجوهرية ستؤدي إلى نقاشات واسعة النطاق في النظرية القانونية والسياسية والاجتماعية، لأنها تمس الجوانب الأساسية للحكم والحقوق الفردية ومسؤوليات المجتمع. وبالتالي، فإن تطور المحاكم اللامركزية لا يمكن أن يؤدي إلى ثورة في العمليات القضائية فحسب، بل يمكن أن يؤثر أيضًا بشكل كبير على فهمنا الفلسفي الأوسع للعدالة والمجتمع.