الأديان والتغير المناخي 

يمثل التغير المناخي إحدى أخطر التحديات التي تواجه الإنسانية، حيث يجلب معه المعاناة والتشريد والوفاة لملايين الأفراد حول العالم دون استثناء. من المتوقع أن يتسبب هذا التحول في اضطرابات جوية شديدة، جفاف واسع النطاق، ومجاعات غير مسبوقة. كذلك، من المنتظر ارتفاع مستويات مياه المحيطات وزيادة درجات حرارتها، مما سيؤدي إلى تغيير أنماط الهجرة الطبيعية، ويضر بالحياة البحرية، ويسبب اختلالات في النظام البيئي والمصادر الغذائية العالمية.

بالنسبة للعديد من الأشخاص، سيكون لتغير المناخ تأثير مباشر وحاد، مما يضطرهم إلى البحث عن مأوى في أماكن خارج موطنهم، مسببًا بذلك أزمة لجوء بمدى وحجم لم يشهدها العالم من قبل. على الرغم من أن تغير المناخ يشكل تحديًا يواجه الجميع، إلا أن تأثيره يتفاوت بشكل كبير بين المناطق المختلفة. فعلى سبيل المثال، ستواجه منطقة الشرق الأوسط ومناطق وسط وجنوب آسيا تحديات أكبر ولأسباب متعددة. في جنوب آسيا، هناك بالفعل زيادة ملحوظة في النشاط الإعصاري، سواء من حيث العدد أو الحجم، كما أن ارتفاع درجات الحرارة والبحار يترك مساحات من الأراضي غير صالحة للسكن. أما في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فمن المتوقع أن يصبح هطول الأمطار أكثر ندرة وتقلبًا، وهو ما بدأنا نشهده بالفعل في العقد الماضي. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تدفع هذه التغييرات أعدادًا كبيرة من المهاجرين واللاجئين للتنقل عبر الشرق الأوسط باتجاه الدول الغنية بالموارد أو التي تتبنى شكل من أشكال سياسات الهجرة المفتوحة، في بعض الدول الغربية.

هناك العديد من المؤسسات الدولية التي أسست لمعالجة تغير المناخ والتخفيف من آثاره، ومن الأمثلة البارزة على ذلك برامج الأمم المتحدة للبيئة وصندوق الدفاع عن البيئة. هذه المنظمات هي في طليعة تطوير وتنفيذ الاستراتيجيات التي لا تهدف فقط إلى الحد من تأثير تغير المناخ ولكن أيضًا إلى تعزيز الممارسات المستدامة التي تعود بالنفع على المجتمعات المحلية. ومع ذلك، فإن مسؤولية مكافحة تغير المناخ لا ينبغي أن تقع على عاتق هذه الكيانات وحدها. ومن الضروري أن تلعب جميع قطاعات المجتمع، بما في ذلك الحكومات والشركات الخاصة والمنظمات غير الربحية والأفراد دورًا نشطًا في هذا المسعى. يتمتع كل كيان وفرد بمساهمة فريدة يقدمها، سواء كان ذلك من خلال صنع السياسات، أو الابتكار في التقنيات المستدامة، أو زيادة الوعي، أو إجراء تغييرات في نمط الحياة لتقليل انبعاثات الكربون. لأن المعركة ضد التغير المناخي هي معركة جماعية، وتتطلب جبهة موحدة حيث يؤدي كل فرد دوره بالتزام. ومن خلال هذه الشمولية يمكننا أن نأمل في تحقيق التغييرات الكبيرة والدائمة اللازمة لحماية كوكبنا للأجيال القادمة.

على البشرية اليوم استخدام جميع الأدوات الممكنة لفهم ومواجهة التغير المناخي بدلاً من تجاهله وتحمل أعباءه في المستقبل. ولكل فرد منا دور يمكن أن يقوم به في بدء التغيير بنفسه أو حتى بتثقيف وتوعية الآخرين بالتحديات البيئية التي نعيشها وسنعيشها في المستقبل. فعلى المدارس والجامعات وكل المعاهد التعليمية دور في خلق جيل يفهم تطورات التغير المناخي وامتداد تأثيره على جميع المباحث، وعلى كل النشطاء السياسيين والحزبيين أن يحاولوا تخصيص جزء من آرائهم السياسية في تبني السياسات الخضراء. وكذلك الأمر بالنسبة للاقتصاديين وأصحاب الشركات في القطاع الخاص، بجعل نموذج المشاريع الخضراء أولوية لتحقيق التنمية المستدامة، وحتى رجال الدين ودور العبادة فإن دورهم لا يقل أهمية أيضًا. فهناك الكثير من القيم الدينية التي تدعو إلى إعمار الأرض وخلافتها والمحافظة عليها للأجيال القادمة.

ومن الضروري أن يستمر حوار البشرية حول التغير المناخي بين كل الأطراف وكل الفاعلين في المجتمعات، وهذا يمتد أيضًا إلى حضور المؤسسات الدينية ومن يمثلونها.

واقعيًا، قد نعتبر المؤسسات والتجمعات الدينية بأنها أحد أهم مساحات المجتمع المدني، فلها دور في قيادة وإرشاد الناس للقيام بما يتناسب مع الصالح العام. وهناك فهم واعتراف متقدم اليوم بين ممثلين وقادة الأديان المختلفة على أن حماية شعوبنا وكوكبنا وجميع الكائنات الحية من تهديد تغير المناخ أمر لا يمكن تجاوزه في النصوص الدينية التي تدعو لبناء الكون ونشر الخير ومساعدة المحتاج، ولا يتم حتى الآن تسليط الضوء على هذه القيم وأسسها الدينية القوية في مجتمعاتنا المحلية وأماكن العبادة بشكل كافي.

وقد أوضح شيخ الأزهر شمول الإسلام لنصوص تدعو لإعمار وخلافة الأرض والحفاظ على البيئة، وعبر خلال المؤتمر العالمي لتغير المناخ (COP28) وقال: “أرى أن هذه الخطوة المهمة والمبادرة الاستثنائية التي تقدم بها مجلس حكماء المسلمين لدعوة رموز الأديان المختلفة لتوقيع وثيقة (نداء الضمير) في بيان أبوظبي المشترك بين الأديان من أجل المناخ، وكذلك لإنشاء جناح الأديان ولأول مرة داخل مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين للتعاون مع الأمم المتحدة ودولة الإمارات؛ وذلك لإسماع صوت القادة الدينيين في مواجهة التحديات؛ وبخاصة تحدي تغير المناخ.”

وبالمثل، تحدث بابا الفاتيكان بإسهاب وتفصيل عن العمل لمكافحة تغير المناخ. على سبيل المثال، كان لخطابه في مؤتمر COP28 رسائل قوية حول خطايانا ومسؤوليتنا في اختيار المستقبل الملائم. وأكد البابا أن “تدمير البيئة هو عمل ضد رغبة الله”. وقال أيضًا: “لننتبه إلى صرخة الأرض، ولنسمع تضرع الفقراء، ولنكن أكثر حساسية لآمال الشباب وأحلام الأطفال؛ فلدينا مسؤولية كبيرة: ضمان عدم حرمانهم من مستقبلهم.” تُنقل رسالته بوضوح شديد، لكنها لا تصل إلى الكنائس المحلية التي يصلي فيها غالبية الناس. وبنفس الطريقة التي أشار بها علماء الدين الإسلامي والأزهر إلى الآيات القرآنية التي تدعو إلى مكافحة تدمير مناخنا والمعاناة الإنسانية الهائلة التي ستترتب على ذلك، هناك انفصال وفجوة بين رسائلهم وبين الممارسة والتطبيق في المساجد والتجمعات الدينية.

قد تلعب المؤسسات الدينية كالمساجد دورًا مباشرًا أكثر في دعوة الناس وتغيير نظرتهم عن التغير المناخي. من خلال تضمين رسائل ودعوات أخلاقية خلال التجمعات الدينية في الصلوات وخطب الجمعة حول أهمية مكافحة التغير المناخي وذكر أهمية رعاية كوكبنا والاهتمام به وأيضًا الدعوة لتخصيص جزء من الصدقات والزكاة للمتضررين من التغير المناخي. يمكن أيضًا من خلال المؤسسات الدينية دعوة المتطوعين للعمل ضمن برامج دينية بيئية تنطلق من المساجد للاهتمام بالعمل المناخي.

وجعل هدف تطبيق سياسات المباني الخضراء على المؤسسات والمراكز الدينية على امتداد تواجدها الجغرافي أمر في غاية الأهمية لكثرة وتعدد هذه المباني؛ فبناء مساجد خضراء تراعي التغير المناخي وتحافظ على البيئة يجب أن يكون من الأولويات. ولكن هذا ليس سوى جزء من الحل. لا يمكن تحقيق التقدم بدون التعاون بين كل فئات ومؤسسات المجتمع. وإن الاتجاه السائد في العالم نحو عدم الثقة في المؤسسات العالمية أمر مثير للقلق. والأمر اليوم متروك لجيلنا وللأجيال القادمة لإعادة بناء الثقة حتى نتمكن من مكافحة الفقر والجوع وتغير المناخ بفعالية. وكما قال أحد القساوسة: “الوقت دائمًا صحيح لفعل ما هو صحيح.