في الجزء السابق من مناقشتنا قمنا بتسليط الضوء على خطر محتمل من تكنولوجياتنا التي تُفقِدنا شيئاً فشيئاً إنسانيتنا عندما نفوِّض لها مهام ومهارات متعلقة بالمعرفة والتجربة الإنسانية الذهنية. انتهينا بطرح موجة من الأسئلة عن شكل مستقبلنا نظراً لهذه التطوّرات التكنولوجية والاجتماعية، ومنها:
هل نريد أن يؤدي اعتيادنا على أخذْ صور من كل تجربة صغيرة كانت أم كبيرة إلى فقدان اهتمامنا بالاحتفاظ بهذه التجارب بذاكرتنا الداخلية وليس الخارجية فحسب؟ هل سنعتاد على وجود كل الأجوبة لأي سؤال أو معضلة في حياتنا الفكرية بمجرّد كبسة زر على جوجل، حتى نفقد الرغبة في الجلوس الطويل للتعلم الاستباقي والعميق والمركّز من الكتب والقراءة، ولذلك نتخلى عن قدرتنا على بناء مكتبة معرفتنا الخاصة بنا والمستدامة؟ هل سنرفض كما يفعل حالياً بعض طلاب المدارس ممارسة مهارة الكتابة ومن خلالها التفكير وتحديد وتطوير وتحدّي آرائنا نتيجة وجود خدمات انتاج الكتابة باستخدام الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تي؟ هل سنشعر بفائدة قضاء ساعات عديدة في البحث عن المصادر والتمييز بين الصواب والخطأ وتصنيف وتنظيم المعلومات وتشكيل رؤيةً شاملة ومختصرة لقضيةٍ ما إذا استطاع شات جي بي تي أن ينقذنا من كل هذه الجهود بمجرّد ثوانٍ من تشغيل خواريزمياته؟
في هذا الجزء نريد أن ننطلق من هذه الأسئلة التي تحرّضنا على تصوُّر الأشكال المحتملة لمستقبلنا، وننتقل منها إلى أسئلة تساعدنا في إيجاد طريقة التعامل معها واختيار المستقبل الذي نريده بشكلٍ واعٍ ومدروس. فيجب علينا أوّلاً التوقف قليلاً والابتعاد عن خط التفكير الذي رسمناه في الجزء السابق لكي نفحصه في سياقه المناسب. فمما لا بدّ من الاعتراف به أنّنا لا نعرف ماذا سيكون شكل مستقبلنا نتيجة التطورات التكنولوجية التي قد تناولتها في هذه المناقشة، ولا أقول إنّ المؤشرات الأولية من الدراسات المذكورة سابقاً عن فقدان القدرات الذهنية عموماً والمتعلقة بالذاكرة خصوصاً ستؤدي حتماً إلى المستقبل الذي قد وصفته أو حتى إنّ هذا المستقبل سيكون سيء بالضرورة، حيث يوجد الذين يرون أنّ التذكُّر ذاته هو من مهام ماضينا الذي نتمتع بفرصة التحرُّر من عبئه لكي نركّز على ما هو أهم وأكثر قيمةً.
ولا أفضل أسلوب التخويف الذي كثيراً ما مارسه محللي التطور التكنولوجي والتقدم الاجتماعي عبر التاريخ، ولم أقصد التخويف بطرح هذه الأسئلة، إنما أردتُ أن أستكشف وأتصور بعض الفرضيات حول نتائج عاداتنا الحالية فيما يتعلق باستخدام التكنولوجيا، لكي ننطلق من هذه التصورات إلى طرح سؤال مهم، فكما هو مُعلَن في المقال الافتتاحي لهذه المنصة، (السؤال هو الذي يستفز الواقع)، أمّا سؤالنا فهو:
ما هي المهام التي ينبغي علينا ألّا نتنازل عنها لحساب أجهزتنا؟
أو بصيغة أخرى: ما هي الأمور التي لا نستطيع أن نتخلى عنها كوننا بشر؟
أو بمعنى آخر: ماذا يعني أن تكون إنساناً؟
يُسمّى هذا الموقع نسبةً إلى مصطلح الأنسنة. هذا مصطلحٌ واحدٌ يشير إلى مفهوم تمّ محاولة تعريفه ووصفه من قِبل مجالات متعددة ومتنوعة، فيما بينها البيولوجيا وعلم الأحياء القديمة والفلسفة والأدب والدين، ولذا من المناسب أن يُستخدَم في تسمية مشروعٍ رامٍ إلى تشجيع انخراط خبراء من مختلف الاختصاصات في مقاربة مسائل مشتركة، كما يجمع مفهوم الأنسنة مفكرين من مختلف مناطق العلم في استكشاف الكون والكتاب والخيال تفتيشاً عن معناه.
إن مصطلح الأنسنة يعني أن يصبح إنساناً… وقد يحسب البعض أنّنا قد تجاوزنا هذه العملية، حيث صار جنسنا الإنساني موجوداً على سطح الأرض قبل عصورٍ كثيرة، وأصبح كل واحد منّا إنساناً في لحظة تشكيله كجنين في رحم الأم. وقد يكونون على حق، إذ من ناحية حرفية قد كان جنسنا جنس الإنسان الحديث منذ آلاف السنين وكلُّ منّا يولِد إنساناً كاملاً بيولوجياً. ولكنّنا نريد هنا أن نتجاوز المرحلة الحرفية، وأن نسأل سؤال أكثر تجريداً: بماذا يتميّز الإنسان عن سائر كائنات الأرض؟
إن الجواب بصرف النظر عن منهجنا في مقاربته هو كما يلي: الإنسان هو العقل.
فمِن ناحية العلوم الطبيعية نلاحظ أنّ علماء الأحياء يسمّون جنسنا (الإنسان العاقل) (homo sapiens). ومِن ناحية الدين نجد في القرآن الكريم الآية التالية: (لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ) (التين ٤) وذلك لأنّ الإنسانَ عاقلٌ كما نرى من خلال طريقة الله لمخاطبة البشر: (وَلِيَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَـٰبِ) (ص ٢٩) ومما أمر الله الإنسان بالاهتمام به: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًۭا) (طه ١١٤) ونرى أنّ هذا العقل هو ما يتميز به الإنسان عن الحيوانات، حيث نجد أنّ القرآن يشبّه الإنسان الذي لا يستخدم العقل بالحيوان: (لَهُمْ قُلُوبٌۭ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌۭ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌۭ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَآ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ كَٱلْأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ) (الأعراف ١٧٩).
وكذلك في سفر التكوين (الذي يعتبر الجزء الأوّل من التوراة والكتاب المقدس إلى حدٍ سواء) نرى أنّ الإنسان يتمتع بمنصب فوق كل مخلوقات الرب الأخرى وأنّه قادرٌ على تسميتها مما يدلّ على قدرته على الحكم والكلام والإبداع كما كُتِبَ (وجبل الرب الاله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء فاحضرها إلى ادم ليرى ماذا يدعوها وكل ما دعا به ادم ذات نفس حية فهو اسمها * فدعا ادم باسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية) (2:19-2:20) وأنّ الرب نهى آدم عن أكلْ من شجرة معرفة الخير والشر (وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تاكل منها لانك يوم تاكل منها موتا تموت) (2:17) والنهي دليلٌ على عقلانية مَن يتلقاه لأنّ النهي والأمر لا معنى لهما بدون قدرة المتلقي على فهمهما وأخذِهما في عين الاعتبار والقرار الحُرّ والمدروس بالطاعة أو العصيان.
ولا تحتكر الأديان السماوية إبراز هذه الصفة المتميزة لدى الإنسان بل ترى البوذية أنّ الحيوانات غير قادرة على الفهم وبالتالي لا تستطيع بطبيعتها أن تخرج من دائرة المعاناة والحياة الدنيا، بينما يمتلك الإنسان القدرة على التفكير والفهم ولذلك أتباع البوذية يعتبرون من أعلى درجات حسن الحظ الولادةُ إنساناً.
ومن ناحية الفلسفة قد سبق للفلاسفة أن قالوا أكثر من مرّة أنّ الإنسان هو العقل، فعلى سبيل المثال لا الحصر قال أرسطو أنّ العقلانية هي ما يتميز الإنسان به عن الحيوانات والنباتات، وكذلك أكّد إيمانويل كانط أنّ حرّية إرادة الإنسان الناشئة عن قدرته على الالتزام بقانون منطقي يفرضه على نفسه بدلاً من السعي الأعمى وراء الغرائز الحيوانية شكّلت أساس كون الإنسان كائناً أخلاقياً له حقوق وعليه واجبات.
إنّه يتبين لنا من جميع نواحي العلم الإنساني أنّ الإنسان هو العقل، فيتبقى لنا سؤالٌ واحدٌ: هل من الممكن أن نفصل العقل عن المعرفة؟ أم يعني موت المعرفة موتَنا؟