موت المعرفة ١: الاختراع

قد كان الإنسان كائناً مُخترِعاً منذ فجر التاريخ بل من قَبله. فمفهومُ التاريخِ هو عبارةٌ عن دراسة الماضي الذي وصلت إلينا أحداثُه عن طريق وثائق مكتوبة، غير أنّ سيرة البشر على الكرة الأرضية تعود بدايتها إلى وقتٍ أقدم بكثير من ظهور الكتابة (حيث يعتبر عمر أقدم آثار للكتابة 5 آلاف سنة ويُعدّ أقدم عمرٍ لأحافير تشير إلى وجود أفراد جنس الإنسان العاقل ما يقارب 200 ألف سنة)، وفي هذه المائتي ألف سنة من عصر ما قبل التاريخ، قام البشر بالعديد من الاختراعات الهامة، فعلى سبيل المثال بدأ ارتداء اللباس واستئناس الحيوانات والسيطرة على النار وابتكار واستخدام أدوات متنوعة، مما أدّى إلى (أو نتج عن) المحور الأساسي لتطور البشر في عصر ما قبل التاريخ أي الثورة الزراعية التي تمكّن من خلالها من بناء مجتمعات وحضارات معقدة مستقرة ومكتظة بالسكان.

ولم يتوقف الإنسان قط عن الاختراع والابتكار منذ ذلك الحين، فعبر التاريخ قد طوّر جنسنا عدداً متزايداً من الأدوات والأساليب، والصلةُ المشتركةُ بينها أنّها مكّنتنا بشكلٍ تدريجي من تفويض ما كنا نتولاه بأنفسنا لاختراعاتنا. وبينما كان أوّل المسؤوليات الإنسانية التي تولتها الأجهزة مهاماً بدنيةً وعملاً يدوياً مثل زرع البذور وجمع المحاصيل ونقل الناس والبضائع وإنتاج المنسوجات وتدفئة وإضاء المنازل وغسل الملابس، فإنّ الابتكار ما لبث أن اجتاح مجالات ذهنية كالحسابيات (آلات الحاسبة) وتسجيل التواريخ والأوقات والمواعيد (الكاليندرات الورقية ثم الرقمية). 

بالبداية، كان رفع هذه المسؤوليات عن عاتقنا وتحميلها لعاتق اختراعاتنا شكلاً من أشكال التحرُّر حيث كان الحافز الأساسي لابتكار واستخدام هذه الأدوات تسهيلَ حياتنا وتوسيع الإمكانيات لاستخدام وقتنا وتحريرنا من بعض أعبائنا التقليدية. إلّا أنّه في الآونة الأخيرة قد بات مدى تكليف الآلات بمهام إنسانية يمتدّ حتى يشتمل على مجالات جديدة قد يجدر الانتباه إليها. إذ صرنا نفوِّض الآلات والأجهزة ليس المهام التافهة والمملة فحسب، بل بعض المهام الأقرب من جوهر إنسانيتنا. 

فعلى سبيل المثال لا الحصر نرى اليوم إلقاء مهمة حفظ المواقع والتعامل مع الطرق وتحديد الاتجاهات على الخرائط الرقمية، وتدوين التجارب ومشاركتها على كاميرات الهواتف المحمولة ومنصات التواصل الاجتماعية، وتخزين الحقائق على محركات بحث كجوجل. إنّ كل هذه المهام ترتكز على نوع من أنوع الذاكرة أو بعبارة أخرى المعرفة، فإذن نستطيع أن نذهب إلى القول إنّ تكليف الآلات بهذه المهام يمثّل استبدال الذاكرة الإنسانية أو المعرفة الإنسانية بأجهزة ذاكرة أو أجهزة معرفة خارجية منفصلة عن الدماغ والعقل الإنسانيين. 

وهنا نجد خطر هذا النوع الجديد من التطور التكنولوجي، فتوجد دراسات تشير إلى أنّ استخدام كل واحد من الأجهزة والخدمات التي ذكرناها فيما سلف قد يؤثر بشكلٍ ضار على ذاكرتنا. على سبيل المثال، بعض الدراسات تظهر أنّ الناس الذين يعتادون على استعمال الخرائط الرقمية وخدمات الملاحة التلقائية يعانون من تدهور قدرات الجزء الخاص من أدمغتهم الذي يتولى مسؤولية الذاكرة المكانية. فكما تؤدي ممارسة المهارات المتعلقة بذاكرة المواقع وتحديد الاتجاهات إلى نمو هذا الجزء من الدماغ ومنع أو إبطاء ظهور ضعف الذاكرة المتعلق بالعمر، فإنّ عدم ممارسة هذه المهارات والاعتماد على خدمات لا تتطلب منّا جهوداً ولا تفاعلاً بل تخطط لنا كل شيء وتقدّم لنا توجيهات بسيطة مرتّبة تلقائياً يُسفر عن تقلص قدرتنا على القيام ببعض المهام التي يحتاج إدائها إلى هذه المهارات كما تكشف الدراسات

كذلك، يلاحظ باحثون في دراسات متعددة أنّ أخذْ صور للتجارب يقلّل من قدرتنا على تذكُّرها. وعلى حد قولهم تعود هذه الظاهرة بجذورها إلى أنّنا نصبح مشتتين عندما نقوم بعملية التصوير بدلاً من التركيز على التجربة نفسها، علاوةً على أنّنا لا ننتبه إلى تفاصيل التجربة لأنّنا نعرف أنّنا نستطيع أن نرجع إلى الصور التي أخذناها. ويتسبب هذا الوعي والثقة بإتاحة الذكريات في أجهزة ذاكرتنا الخارجية بالنسيان في مجال آخر أيضاً، حيث قد اكتشف الباحثون أنّ البحث عن معلومات باستخدام جوجل يؤدّي إلى قدرة أقل على تذكُّر هذه المعلومات بدون مساعدة جوجل مقارنة بأفراد قرأوا نفس المعلومات من نفس المصادر ولكنهم لم يستخدموا جوجل بل تمّ إعطائهم المصدر مباشرةً من قِبل الباحثين. 

وهذا هو ما يجب علينا أن ننتبه إليه. كثيراً ما نسمع أنّ التكنولوجيا قد تكون السحر الذي ينقلب على الساحر، ومن الأدلّة على أنّنا قد تعايشنا مع هذا الخوف منذ زمنٍ طويل أفلامٌ قديمٌة مشهورٌة مثل (المبيد) أو بعنوانه الانجليزي (ذا ترمنايتور) تتصور مستقبل قرّر فيه الذكاء الاصطناعي القضاء على البشر واستخدمَ من أجل ذلك تكنولوجيا اخترعها الإنسان بنفسه. وهنا لا تكمن الإشارة إلى هذا النوع من تهديد التكنولوجيا، إنّما يبدوا أنّ التكنولوجيا لن تكون السحر الذي ينقلب على الساحر بل السحر الذي يجعل الساحر ليس ساحراً كون سحره أفقده رغبته في ممارسة السحر وجعله ينسى كيف كان يقوم به بالأصل. أو، بتعبيرٍ آخر، قد نصير نعتمد على أجهزتنا وآلاتنا وتطبيقاتنا وخدماتنا الرقمية التلقائية ونتنازل عن أعمالنا لحسابها إلى حدِ نسيانِ وفقدانِ بعضِ المهاراتٍ التي نتميز بها نحن البشر. 

هل نريد أن يؤدي اعتيادنا على أخذْ صور من كل تجربة صغيرة كانت أم كبيرة إلى فقدان اهتمامنا بالاحتفاظ بهذه التجارب بذاكرتنا الداخلية وليس الخارجية فحسب؟ هل سنجيد ونقيّم التصوير بالهواتف لدرجة نسيان التصوير بالعين والعقل؟ هل سنستطيع تذوُّق وتقدير واستحضار جمال المناظر ولمس الأرياح وصوت الضحك وسعادة الابتسامة بدون واسطة الشاشة؟ هل سنعتاد على وجود كل الأجوبة لأي سؤال أو معضلة في حياتنا الفكرية بمجرّد كبسة زر على جوجل، حتى نفقد الرغبة في الجلوس الطويل للتعلم الاستباقي والعميق والمركّز من الكتب والقراءة، ولذلك نتخلى عن قدرتنا على بناء مكتبة معرفتنا الخاصة بنا والمستدامة والقائمة على أسس الذاكرة الصلبة وليست المعرفة المؤقتة التي نلتقي معها للحظات ظهورها على شاشتنا ثم تذهب مع أدراج الأرياح؟ 

هل سنصبح نعجز عن حمل أو تحمّل عبء التركيز والتفكير والصبر واللايقين والتأمل الضروري لاكتشاف معنى أكثر من سطحي لهذه الحياة وحقائق هذه الدنيا المعقدة والمتغيّرة؟ هل سنرفض كما يفعل حالياً بعض طلاب المدارس ممارسة مهارة الكتابة ومن خلالها التفكير وتحديد وتطوير وتحدّي آرائنا نتيجة وجود خدمات انتاج الكتابة باستخدام الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تي؟ هل سنشعر بفائدة قضاء ساعات عديدة في البحث عن المصادر والتمييز بين الصواب والخطأ وتصنيف وتنظيم المعلومات وتشكيل رؤيةً شاملة ومختصرة لقضيةٍ ما إذا استطاع شات جي بي تي أن ينقذنا من كل هذه الجهود بمجرّد ثوانٍ من تشغيل خواريزمياته؟ 

إنّ الإتاحةَ الفورية والمجانية لكل أنواع المعرفة البشرية جزءٌ من عملية توسُّع إتاحة المعرفة التي تميّزت خلال التاريخ البشري بقفزات كبيرة ومفاجئة مثل اختراع الكتابة وآلة الطباعة وأوائل الحواسيب وشبكاتها التي أدّت إلى الانترنت كما نعرفه اليوم، ولكنّ مدى سرعة وسهولة الحصول على المعلومات وتمتُّع شرائح ضخمة وواسعة من البشر بهذه القدرة الجديدة ظاهرةٌ غير مسبوقة في التاريخ الإنساني. ومن الواضح أنّ التوصل إلى هذه اللحظة التاريخية، التي نشهد فيها عدداً هائلاً من الناس الذين يملكون هواتف محمولة تمتلك قدرة حاسوبية تفوق قدرة أكبر الكمبيوترات العملاقة التي كنا نطوّرها قبل نصف قرن فقط، يمثّل إنجاز رائع ومُلهِم لعلمنا وجنسنا. ولكن كل عملة لها وجهان، فهل هو الوجه الآخر لعصرنا الرقمي نوعٌ جديدٌ من الكسل والارتياح وعدم ممارسة المهارات الذهنية؟

نختم هذا الجزء الأوّل من مناقشتنا بطرح السؤال السالف، وبدعوة القارئ إلى التأمُّل في المستقبل المفترض الذي يقدّمه والذي رسمنا صورةً منه بالأسئلة السابقة الكثيرة. لقد مررنا في هذا الجزء بالماضي والحاضر والمستقبل لكي نرسم صورةً كاملةً لنمط تطوُّر تكنولوجياتنا واتجاهاتها، ونلفت الانتباه إلى خطرٍ محتملٍ قد تحمله إنجازاتُنا بين طياتها. إذ من البديهي أنّ الإنسان يشكّل مخترعاته، ولكنّه لا بدّ من الإدراك بأنّ مخترعاته تشكّله بدورها، فهنا سلّطنا الضوء على إحدى طرق تشكيلنا من قِبل تكنولوجياتنا، وفي الجزء اللاحق من مناقشتنا سنفكّر في كيفية الاستجابة لهذه المسألة في حاضرنا لكي نختار أحسن الأشكال لمستقبلنا.