ما زال الذكاء الاصطناعي ينطلق كالصاروخ متجاوزًا كل السيناريوهات المتوقعة لحجم تطوره، شركات جديدة وواقع جديد يفرضه هذا التطور الذي بدأ العالم يسأل إن كان يمكن السيطرة عليه. ويأتي الوصف الحقيقي لتطور الذكاء الاصطناعي بتكريس اللايقين، فنحن نعجز عن تخيل التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سترافق هذه القفزات التكنولوجية.
يطل علينا الذكاء الاصطناعي اليوم ونجده في مختلف القطاعات والصناعات، ويعِد البشرية بأتمتة نسبة رهيبة من أعمالها واختصار آلاف الساعات من العمل، فيدخل الذكاء الاصطناعي المجالات المعرفية دون أن يطرق الباب، و يتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على إحداث تحول في الوصول إلى المعرفة وزيادة الكفاءة في العمل ويؤدي إلى زيادة الإنتاجية والابتكار في مختلف القطاعات في كل من الاقتصادات المتقدمة والنامية.
ولقد بدأ الذكاء الاصطناعي في صنع تحولات حقيقية في القطاعات المختلفة فهنالك وعود كبيرة يحملها في مساعدة عملية التعليم وتطوير سوق العمل وخلق حلول مبتكرة في القطاعات الصحية والهندسية والقانونية وحتى الترفيهية وغيرها الكثير ويقدم طرقًا جديدة للتعامل مع القضايا البيئية والتغير المناخي وندرة المياه وإدارة الحرائق عن طريق الأدوات المتقدمة للرصد والمتابعة مما يساعد على تخفيف حدة الفقر والجوع، وجعل المدن أكثر أمانًا.
وعلى الضفة الأخرى من النهر، تزداد المخاوف المحقة حول خطر الوصول إلى مستويات غير مسبوقة من البطالة وأثر ذلك على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وكما يزداد الخوف حول سهولة خلق ونشر المعلومات المضللة وإنتاج محتويات مفبركة والتي قد تهدد أي عملية انتخابية وقد تقود إلى نهاية محتملة للديموقراطية بالصورة التي نعرفها، وتحديات أخرى مثل زيادة الرقابة وإنتاج مستمر للتحيزات البشرية في الآلة والخوف كله بأن تقع وتتطور هذه الأدوات من قبل مخربين أو أن تفيد العمل الإرهابي في العالم.
عالميًا، بدأ صناع السياسات في جميع أنحاء العالم في الاستيقاظ على التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي ويتصارعون على كيفية إدارتها. في النصف الأول من عام 2023، أطلقت مجموعة السبع “عملية هيروشيما للذكاء الاصطناعي”، وهو منتدى مخصص لتنسيق حوكمة الذكاء الاصطناعي. وفي حزيران، أقر البرلمان الأوروبي مسودة قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي، وهي أول محاولة شاملة من جانب الاتحاد الأوروبي لوضع ضمانات حول مجال الذكاء الاصطناعي. وفي تموز، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى إنشاء هيئة رقابية تنظيمية عالمية للذكاء الاصطناعي. وفي نهاية تشرين الأول، تم الإعلان عن إنشاء المجلس الاستشاري رفيع المستوى للذكاء الاصطناعي والذي يضم 38 شخصية عالمية من نخبة المسؤولين الحكوميين ورواد الأعمال في القطاع التكنولوجي والأكاديميين والخبراء والمتخصصين من كافة قارات العالم لحوكمة الذكاء الاصطناعي ومعالجة التحديات والفرص الدولية للذكاء الاصطناعي، والذي يمثل إطار عمل دولي جديد يسهم في تعزيز التعاون الدولي الهادف لحوكمة مجالات الذكاء الاصطناعي والبناء على الفرص المستقبلية التي يحملها، وتصميم الحلول الاستباقية لتحدياته.
سيعمل المجلس الاستشاري للذكاء الاصطناعي على دراسة وتطوير توصيات بشأن ثلاثة مجالات رئيسية، هي: الحوكمة الدولية للذكاء الاصطناعي، والفهم المشترك للمخاطر والتحديات، والفرص والعوامل التمكينية للاستفادة من الذكاء الاصطناعي وتسريع تحقيق أهداف التنمية المستدامة العالمية.
وسيعمل المجلس على بناء مفاهيم مشتركة وتحديد الإجراءات ذات الأولوية لمساعدة الحكومات والقطاع الخاص على الاستجابة بشكل أفضل للتطورات المتسارعة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، كما ستعمل على إشراك المعنيين من الحكومات والمنظمات الدولية والإقليمية في تعزيز التعاون في حوكمة الذكاء الاصطناعي ودعم ربط المبادرات الرائدة عالميًا في هذا المجال بحيث يعمل الذكاء الاصطناعي لصالح البشرية.
ومن المهم أن تتجاوز عملية حوكمة الذكاء الاصطناعي أن يكون الهدف فقط الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتوسيع القوة القطرية للدول والمصالح الضيقة أو محاولة خنق تطور الذكاء الاصطناعي لتجنب مخاطره، بل يجب أن يذهب التفكير نحو خلق توازن حقيقي بين الاستفادة من نِعم الذكاء الاصطناعي وخلق مسار لا يقتل الإبداع والابتكار فيه وبين ضبط مخاطره وآثاره التي يصعب التنبؤ بها.
إدخال مفاهيم وآليات حوكمة الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسات وتوزيع فوائده ومكتسباته بدلاً من سيطرة عدد محصور من شركات القطاع الخاص على الصناعة أمر في غاية الأهمية، ونقل الحوار حول أهمية حوكمة الذكاء الاصطناعي للبشرية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة كهدف رئيسي بدلاً من جعل تطوره يسير خلف تحقيق الأرباح المالية فقط يعتبر بداية الانطلاق نحو الصواب.
تأتي هذه الحوارات والفرص في لحظة تاريخية صعبة يعاني فيها الجنوب العالمي من فجوة تنموية ورقمية هائلة، وهنا تأتي مهمة الحرص على إدماج الجميع في هذه الحوارات والمحاولات للحد قدر الإمكان من استمرار مثل هذه الفجوات والاختلافات بين مناطق العالم لعدم إعاقة تطور الذكاء الاصطناعي بالشكل الصحيح وعدم التفاجؤ مستقبلًا بعواقب قد يصعب تجاوزها.