نتخيل أن الطفولة مرحلة براءة وملاذ آمن محمي من تعقيدات الحياة البالغة. لكن ليس كل طفل محظوظًا بهذا القدر. من المفترض أن تكون مرحلة الطفولة فترة اكتشاف ودهشة. لكن بالنسبة لبعض الأطفال، تبين تلك الاستكشافات البريئة لعالمهم عن حقائق قاسية. فيمكن للآباء، الذين من المفترض أن يكونوا مصدرًا للدعم والتوجيه، أن يصبحوا بدلاً من ذلك سبب لآلام أطفالهم. الإهمال وعدم الاستقرار العاطفي والإساءة الصريحة ليست مجرد أحداث؛ إنها ندوب محفورة في عقل نامٍ. تتردد عواقبها الوخيمة في حياة الطفل، وتشكل علاقاتهم و إحساسهم بذاتهم وقدرتهم على التعامل مع العالم. تتطلب هذه الحقيقة أن نواجه ونشخص الطرق التي يمكن أن يصيب بها الآباء جروحًا لا يمكن إصلاحها لأطفالهم من غير علم.
لا يمكن التقليل من أهمية تأثير الآباء، الإيجابي والسلبي على حد سواء. عندما يشهد الأطفال نوبات متكررة من الغضب من قبل والديهم، أو يتم التقليل من مشاعرهم باستمرار، أو ينشأون وسط قواعد وتوقعات غير متسقة، أو يفتقرون إلى الحدود والعواقب الكافية للسلوكيات الضارة، يمكن أن يكون لذلك آثار بعيدة المدى. إن فهم وتحليل ذلك ينطوي على دراسة مدى تأثر الطفل بالأفعال أو الظروف التي قد تحصل له من والديه أو من المجتمع المحيط نتيجة لغياب الوالدين وكيف يمكن لهذا التأثير أن يلعب دورًا مهمًا في المستقبل حين يصل لمرحلة تكوين العلاقات واتخاذ القرارات وحتى سلوكه العام ليس فقط في مرحلة الشباب وإنما للأبد. هذا الموضوع يشكل الأساس لما يُعرف في علم نفس النمو.
إن تصرفات الإنسان البالغ وسلوكياته وطريقة تعامله مع الأمور في حياته ترجع أصلها إلى طريقة استيعاب الطفل لمثل هذه الأمور في مرحلة الطفولة، يقول عالم النفس الأمريكي بورس فريدريك سكينر: “أحضر لي طفلاً وسأشكله كما تشاء”، ويقصد العالم بأن الآباء لديهم القدرة الكاملة على بناء شخصية الطفل وسلوكياته بناءً على طريقة معاملتهم، فإن أُعطي الطفل مسؤولية بسيطة مستمرة، سوف يتولد لديه أساس واضح لأهمية المسؤولية، وسوف تظهر هذه الصفة عندما يكبر. وعلى العكس، لو لم يُعطَ مسؤولية بسيطة لعمره، فسيجد صعوبة في تحمل المسؤوليات عندما يكبر. والجدير بالذكر أن إعطاء المسؤولية وحده ليس كافيًا؛ فعلى الآباء أيضًا أن يظهروا للطفل شعورهم بالامتنان عندها، وذلك سيلعب دورًا إيجابيًا في تقبل الموضوع وترسيخه حتى يصبح صفة لديه. وأيضًا، إضافة عقاب بسيط عند رفضه سيبني للطفل مبدأ العقاب والجائزة، والذي يلعب دورًا مهمًا في المستقبل. فالشخص البالغ الذي يعمل في وظيفة يتحمل مسؤوليتها يتوقع تقديرًا على ذلك على شكل راتب شهري، والعكس سوف يتعرض لعقاب على شكل خصم من راتبه أو طرده من عمله.
والنقطة الحساسة هي أن مدى تقبل الشخص لأحدى الفكرتين ينبع من طفولته. الفكرة ليست فقط في المسؤولية بل في كل شيء حرفيًا، مثل تكوين العلاقات وطريقة الكلام التي يتعلمها من والديه وإظهار المشاعر السليمة بناءً على طريقة إظهار مشاعر الآباء لأبنائهم. فالطفل المهمل من هذه الناحية سيواجه مشكلة عندما يكبر في فهم مشاعر الآخرين، والتي ستؤثر على مدى تكوينه للصداقات. ويلعب الآباء أيضًا دورًا مهمًا غير مباشر في تعليم الطفل كيفية اتخاذ القرارات والسلوكيات من مجرد مراقبة الطفل لسلوكيات الوالدين ومدى تناسقها وما إذا كانت سلبية أم إيجابية. فالطفل، إذا رأى والديه يعاملون الحيوانات الأليفة أو التي تعيش في الشارع معاملة سيئة تتمثل بالعنف والضرب، فسوف يتقبل الطفل الفكرة كشيء عادي ويظهر هذا التأثير أكثر عندما يكبر، وإذا لم تأخذ الطفلة نصيبها من مشاعر الأمومة من والدتها، فمن المرجح أنها عندما تكبر ستكرر التجربة لأبنائها.
ولو نظرنا للفكرة بشكل أكبر وأردنا أن نضع أمثلة من الحياة العملية، فسنجد أن الأشخاص الناجحين في حياتهم، غالبيتهم أشخاص ذو صفات تؤهلهم لنجاحهم مثل الإرادة والإبداع وتقبل الآخرين والقدرة على القيادة وغيرهم. وكل صفة من هذه الصفات كان من الممكن أن يتم محوها لولا تعزيز الوالدين. فلم يقتلوا إبداع الطفل وطموحاته عند رؤيتها بالرفض أو عدم الاكتراث، وفي نفس الوقت، وضعوا حدًا لهذه الأمور لتبقى ضمن إطار الواقعية. والقدرة على القيادة ترتبط كثيرًا بالمسؤولية التي يرى فيها الطفل التأثير عن الآخرين وليس نفسه فحسب، وغيرها الكثير من الصفات التي يتحكم بها الآباء. ولو نظرنا للأشخاص ذوي الميول الإجرامية، سنرى أنهم لم يحظوا بطفولة جيدة من تعرضهم للعنف والحرمان والإهمال العاطفي، فسنجد الشخص لديه نسخة مماثلة وقد تكون أسوأ من هذه الصفات التي قد تؤدي لارتكاب الجرائم.
إن تجاوز دائرة الألم أمر ممكن، وهذا يبدأ بتحمل الآباء لمسؤولية تأثيرهم على أطفالهم. طلب المساعدة المهنية لتعلم تربية أكثر إيجابية ليس علامة ضعف، بل دليل على الالتزام بتزويد أطفالهم بالحب والدعم الذي يحتاجونه للنمو والازدهار ورغبتهم في كسر هذه الأنماط المتوارثة. هناك العديد من الموارد المتاحة للآباء، مثل العلاج النفسي ودورات تربية الأطفال ومجموعات الدعم، التي يمكن أن تساعدهم على فهم التأثير العميق لسلوكهم على أطفالهم وكيفية كسر الأنماط السلبية. ومن تأثروا سلبيًا بسبب طفولتهم السيئة والتي كونت لديهم نقاط ضعف، فرحلة الشفاء ليست سهلة ولا صعبة، إنما يتطلب من الشخص أن يحيط نفسه بأشخاص إيجابيين وناجحين لدعمه وتوجيهه أحيانًا. ويمكن البدء بخطوات بسيطة مثل بناء علاقات داعمة وممارسة الرعاية الذاتية وطلب المساعدة من الأصدقاء أو أفراد العائلة الموثوقين حين تشتد الحاجة. وهذا المقال ليس استسلامًا لقدر محتم، بل تنبيه لكل فرد بأن يسيطر على دفة سفينته ويثبت أن ماضينا لا يحدد بالضرورة مستقبلنا. فكما يقال، “ظلمة الليل لا تمنع نور الفجر”.