الإنسانية والتغير المناخي

ينشغل العالم اليوم بقضية التغير المناخي كأهم القضايا العابرة للحدود، والتي تذكرنا جميعًا أننا شركاء في هذا الكوكب وأننا أمام مسؤولية مشتركة تحتم علينا العمل لإيجاد حلول عملية وسريعة ننقذ فيها ما تسببت فيه الدول الصناعية على مدار العقود الماضية. التغير المناخي هذا المصطلح الذي نحتاج اليوم إلى “أنسنته” لننقل آثاره وتبعاته المباشرة وغير المباشرة على حياة الناس حتى يستطيعوا فهمه ولنبني تصورًا عامًا يمكننا من استيعاب خطورته في كل القطاعات، وكل ذلك أساسي ومرتبط بشكل مباشر بقدرتنا على التخفيف من التغير المناخي والتكيف معه والتركيز على أهمية رفع الوعي بالعمل المناخي على مستوى الأفراد والحكومات في العالم للمساهمة بإيجاد حلول تحفظ كوكبنا وتصون الحقوق لنا وللأجيال القادمة.

يساهم الوقود الأحفوري بحوالي 75% من انبعاثات غازات الدفيئة، مما يزيد تركيزها في الغلاف الجوي التي ينتج عنها الاحتباس الحراري وتغير المناخ، مما يسبب ارتفاعًا في درجات حرارة سطح الأرض بشكل أسرع وتغيرات في أنماط الطقس وما يرافقها من ظواهر مناخية كموجات الحر وحرائق الغابات والجفاف الشديد والعواصف الكارثية وفيضانات وتدهور في التنوع الحيوي وما يتبعها من مخاطر صحية واقتصادية واجتماعية وثقافية تجعلنا في حالة قلق بيئي دائم.

وفقًا لمنظمة الهجرة الدولية، فإن تغير المناخ قد يكون مسؤولًا عن تشريد ما يصل إلى 200 مليون شخص بحلول عام 2050، مما يعني تغيرًا في حياة الناس وسبل عيشهم وشكل المجتمعات واقتصادياتها وحياة الناس وعلاقتهم مع بعضهم ومع الأرض التي تشكل هويتهم وما يتبعها من تطورات وتغيرات في معنى القيم والهوية والعادات والتقاليد التراثية والقصص المرتبطة بالمكان والزمان فضلًا عن الأضرار التي قد يتسبب بها الظواهر المناخية القاسية على التراث العمراني والأثري وحتى على مستوى التراث الثقافي غير المادي وما سيلحقه من أضرار في تغيير الممارسات الثقافية والتقليدية والطقوس الهامة التي لن يعود لها موطئ قدم.

وفي سياق القضايا المناخية، يُظهر التباين في التأثير بين المجتمعات جليًا في تأثير تغير المناخ، إذ يعاني الشباب والأطفال والنساء والفئات المهمشة في المجتمعات الفقيرة والأقل قدرة على التكيف تأثيرًا أكبر من غيرهم، فالشباب والأطفال غالبًا ما يتحملون عبء التغير المناخي من خلال فقدان الفرص التعليمية والصحية، وتهديدات جديدة لسلامتهم وأمنهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن النساء غالبًا ما يكونن أكثر تأثرًا بتغير المناخ، حيث يُضطرن لتحمل مسؤوليات إضافية في مواجهة الكوارث والتغيرات البيئية، مما يزيد من عبء العمل والضغط النفسي عليهن. وبهذا، يزداد التباين الاجتماعي والاقتصادي والصحي بين الطبقات الاجتماعية، مما يزيد من حالة عدم المساواة والاستقرار في المجتمعات المتضررة، ويهدد السلم والأمن المجتمعي بشكل عام، مما يتطلب مشاركة أكبر لهذه الفئات في عمليات صناعة القرار ورسم السياسات التي تحدد مستقبلهم وتضمن استقرارهم.

فعلى سبيل الذكر لا الحصر، في بلد كالأردن يعاني من شح في موارده المائية، إذ تعتبر حصة الفرد 61 مترًا مكعبًا سنويًا في حين أن خط الفقر العالمي يقدر بـ 1000 متر مكعب سنويًا للفرد الواحد ويفاقم تغير المناخ الوضع مما يؤثر سلبًا على حياة المواطنين وعلى النساء بشكل أخص لتعدد الاعتبارات المنوطة إليهن في القيام بالأعمال المنزلية ورعاية الأطفال إلى جانب تعدد الاحتياجات الشخصية والصحية والبيولوجية لهن، بنفس الوقت الذي ترتفع فيه نسبة النساء اللواتي يرأسن أسرهن إلى 17.5% تبعًا لإحصاءات المرأة الأردنية 2020، مما يشكل تحديًا كبيرًا أمام استقرار الأسر وعبء نفسي يرهق كاهلهن.

وفي سياق عالمية القضايا المناخية التي لا تعرف حدودًا سياسية للدول، بنفس الوقت الذي يعاني فيه وتتضرر الدول النامية بشكل أكبر نتيجة لتمسك العديد من الدول المتقدمة بوتيرة التنمية الحالية متجاهلة بذلك الأضرار التي قد تنجم عنها، جاء هذا المبدأ “المسؤولية المشتركة والمتباينة” كآلية سلمية لمعالجة الأزمات الدولية البيئية القائمة على أساس التباين في درجة المسؤولية بين الدول النامية والمتقدمة وفقًا لقدرات وإمكانيات الدول وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية ومدى مساهمتها في الأضرار البيئية، وهذا ما تركز عليه مؤتمرات المناخ رغم الضعف الكبير في تطبيق الالتزامات الدولية المتفق عليها.

ما نحتاجه اليوم هو سياسات عالمية متجهة نحو تصفير الانبعاثات الكربونية وتشجع نحو الانتقال والوصول العادل للطاقة النظيفة وتشجع الاقتصاد الأخضر بنفس الوقت الذي نحتاج فيه دعمًا أكبر لبناء صمود ومنعة للمجتمعات المهمشة من خلال بناء قدرات الأفراد والمؤسسات ونقل التكنولوجيا وتوفير التمويلات اللازمة لمشاريع التكيف والتخفيف، والتركيز على إدخال أنظمة الذكاء الاصطناعي التي ستساعد على فهمنا للنظام البيئي بشكل أكبر وجمع وتحليل المعلومات وتحسين قدرتنا على التنبؤ بالتغيرات المناخية والحد منها والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة مما قد يغير قواعد اللعبة لصالح الإنسان والبيئة.