يُعد مفهوم السيادة من أكثر المفاهيم القانونية إثارة للجدل، نظرًا لارتباطه بالقضايا السياسية وتعقيداتها وتداخله مع التخصصات المختلفة.
ارتبط مفهوم السيادة في العصور القديمة بشخصية الحاكم، كما تشير كتابات الإغريق القدماء مثل أرسطو وأفلاطون، فقد حاولوا ابتداءً تعريف السيادة باعتبارها مفهومًا سياسيًا (فقط) يرتبط بالسلطة العليا، وطبعًا لا تخفى الدوافع السياسية لهذا التعريف البدائي. فقد تركز مفهوم السيادة في بداياته على الجانب الداخلي للسيادة ولم يتطرق لعلاقة الدول ببعضها ببعض إذ إن مفهوم الدولة كما هو معروف حديث النشأة نسبيًا. ولكن في العصر الروماني بدأ مفهوم السيادة يأخذ طابعًا قانونيًا لأول مرة من خلال تعريف بروكلوس في موسوعة جوستنيان لها بأن السيادة هي عدم خضوع إرادة الشعب لشعب آخر.[1]
ولكن في حقيقة الأمر، لا يمكن الحديث عن تشكل حقيقي لمفهوم السيادة كمفهوم قانوني بمعناه المعروف اليوم إلا منذ القرن السادس عشر على يد جان بودان، وهو أول من بلور نظرية كاملة لمبدأ السيادة في مؤلفه “الكتب الستة في الجمهورية”[2] ، إذ استمد بودان مفهومه عن السيادة من التفكك الذي حصل في أوروبا للدول القومية ومن صراع الحكام المطلقين مع المقاطعات[3] ، فقام و عرَف بودان السيادة بأنها “سلطة الجمهورية العليا و المطلفة و الابدية، فهي سلطة على كافة المواطنين و رعايا الدولة”[4] وكنتيجة للتطور الحاصل في مفهوم الدولة الذي بدأ بالتشكل، تطور تعريف السيادة عند بودان ليشمل قضايا أكثر تعقيدًا من هيمنة شعب على شعب آخر، فشمل قضايا متعلقة بالسلطة مثل حدود السلطة (مطلقة) ومدتها (أبدية) حتى أن التعريف بلغ حدًا من الدقة يميّز فيه بودان بين رعايا الدولة ومواطنيها.
وإذا انتقلنا إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد نادى كل من الفيلسوفين جان جاك روسو وجون لوك بأن تكون السيادة للشعب، فقد كان كل من روسو ولوك يحاولان صياغة نظريات للعقود الاجتماعية بين الحاكم والمحكوم (الشعب)، فقاموا بتعريف السيادة بطريقة تحفظ للشعب مركزيته في معادلة السلطة باعتباره هو صاحب السيادة والدولة قامت لخدمة مصالحه.
أما لو حاولنا سؤال مفكر اقتصادي مثل آدم سميث عن رأيه بتعريف السيادة أواخر القرن الثامن عشر، لأجاب آدم سميث بأن السيادة، أيًا كان تعريفها، يجب أن لا تمس بحرية التجارة وحركة البضائع وأن لا تمتد فتسمح للدولة بالتدخل في الشؤون الاقتصادية للأفراد[5] ، كون آدم سميث من أبرز المدافعين عن حرية التجارة.
شهد مفهوم السيادة أكبر تحول مع نشأة التنظيم الدولي بعد تبلور كل من فكرتي القانون والدولة وانتهاء الحرب العالمية الثانية ونشأة الأمم المتحدة التي تضمن ميثاقها عدة مبادئ هامة حول مفهوم السيادة والمساواة بين الدول سواء كانت متقدمة أم نامية إلى ترسيخ مفهوم السيادة كمفهوم نسبي يخضع لما يورده القانون الدولي من قيود في ضوء القواعد القانونية والمبادئ التي يقررها ميثاق الأمم المتحدة[6].
يلاحظ من كل ما سبق أن السيادة مفهوم مرن يتغير بحسب الظروف ورؤية الإنسان للعالم المحيط به ورغبة الشعوب بالانفتاح على الشعوب الأخرى أو الانغلاق على نفسها، فقد كانت أوائل التعريفات للسيادة تتمركز حول الحاكم وحماية سلطاته ثم تطور مفهوم السيادة كنتيجة لنشأة الإمبراطوريات ورغبتها في التوسع فصارت السيادة تعرف بأنها عدم الخضوع لشعب آخر، بينما في حالة بودان كان تعريف السيادة يحاول التمهيد لنشأة الدولة فركز على نبذ الانقسامات والخضوع لسلطة واحدة سماها “سلطة الجمهورية”.
وأخيرًا، كان مفهوم السيادة عند كل من روسو ولوك وآدم سميث مفهومًا في خدمة نظرياتهم السياسية والاقتصادية المختلفة ولما كان من غير الممكن لأي دولة أن تعيش من دون الدول الأخرى فتبنى القانون الدولي مفهومًا مرنًا للسيادة يراعي تنظيم العلاقات بين الدول ومبادئ حسن الجوار.
[1] د.محمد رمضان،تأثير اتتفاقيات منظمة التجارة العالمية على مبدأ السيادة في القانون الدولي العام، المجلة المصرية للقانون المصري،المجلد(77) لسنة 2021،ص55+56
[2] ايمن احمد الورداني،حق الشعب في استرداد السيادة،د. مكتبة مدبولي،الطبعة الاولى 2008،ص95
[3] كارل شميت،اللاهوت السياسي، المركز العربي للابحاث و الدراسات السياسية،الطبعة الاولى،2018،ص33
[4] د.ايمن احمد الورداني,مرجع سابق،ص103
[5] د.ايمن احمد الورداني,مرجع سابق ص108+109
[6] د.محمد رمضان،المرجع السابق،ص58+ص59