عبر التاريخ تطورت أدوات حل النزاعات بين الأفراد مع تطور المجتمعات البشرية, وصولا للتحكيم كوسيلة لحل النزاعات, ليمثل التحكيم حالة من حالات رقي المجتمعات البشرية وتحضرها, حيث تخلى الأفراد عن فكرة اقتضاء الحق بالذات البدائية, بل وتجاوزوا ذلك للتخلي عن دور السلطة في حل النزاعات بينهم بما تملكه من قوة وسطوة, إلى شكل قائم على حرية الاختيار واتجاه الإرادة الحرة لحل النزاعات بطرق سلمية بعيدا عن سلطة الدولة.
التحكيم قائم على حرية الإرادة فالأفراد مسؤولون عن تحديد معالم عملية التحكيم, من حيث اختيار شكل التحكيم, وعدد المحكمين, والقواعد واجبة التطبيق سواء على النزاع أو على إجراءات التحكيم, فهو تمثيل عملي لقيم الليبرالية الحديثة التي تعلي من شأن الفرد وحرية اختياراته, وتتوجس من السلطة وتحاول تقليل تدخلاتها في مسائل الأفراد الخاصة قدر المستطاع.
مع دخول العولمة وتطور وسائل الاتصال زادت أهمية التحكيم وجرت عمليات تطوير عليه, بالصورة التي تواكب هذه السرعة في انتقال البضائع والأموال بين الدول, وظهور الاستثمارات العابرة للقارات, فظهرت قواعد قانونية عابرة للدول تنظم عمليات التجارة والاستثمار الدوليين, وظهرت مؤسسات خاصة تحتوي على هيئات تحكيم لحل النزاعات ولها تشريعات الخاصة تحكم عملية التحكيم بصورة مستقلة تماما عن كيان الدولة و عابرة للشعوب والأمم, مثل غرفة التجارة الدولية بباريس, المركز الدولى للتحكيم بفيينا ومحكمة لندن للتحكيم الدولي.
وكان للثورة الصناعية الرابعة كبير الأثر على عملية التحكيم وإجراءاته المختلفة, من حفظ للوثائق وتبادلها وعقد جلسات استماع افتراضية مما أدى لتخفيض تكلفة عملية التحكيم وإتاحتها لجمهور أكبر من المستفيدين, وشكلت هذه التحولات الحجر الأساس لمبادئ التحكيم الأخضر الذي يسعى لتخفيض النفايات الصلبة واستهلاك الوقود الأحفوري من خلال أتمتة الوثائق وعقد جلسات استماع افتراضية.
في المستقبل سيكون للتطور التقني دور أكبر في عملية التحكيم, وقد بدأنا نشهد ظهور العقود الذكية , وهي برامج تشغيلية مخصصة لتنفيذ صفقات محددة بناءً على شروط محددة مدمجة مسبقًا, وتعتمد على تقنية البلوكشين، حيث يتم تخزينها وتشغيلها على البلوكشين مباشرة دون تدخل طرف ثالث، مما يسمح بتنفيذ الصفقات بطريقة آمنة وموثوقة وتلقائية, وهذه التقنية ستمهد لما يسمى بالمحاكم اللامركزية, بل وحتى حل النزاعات من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي دون تدخل بشري.
, كل هذه التطورات تثير قلقاَ وتساؤلات حول مستقبل المهنة القانونية كما باقي المهن التي نعرفها اليوم, وهل ستحل التقنية محل البشر العاملين في هذه المهن, وهل ستشكل تهديدا لخصوصية البيانات, وكيف ستؤثر عملية إزالة الحدود لانتقال السلع والبضائع على واقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
التغيرات التي تحدث على نظمنا القانونية في ظل الثورة الصناعية الرابعة يجب أن ينظر لها بصورة أعمق, فما هو مستقبل الدولة القومية بشكلها التقليدي, وقد بدأت التقنية والمؤسسات العابرة للدول بأخذ جزء من أدوارها وعلى رأسها عملية فض النزاعات, التي كانت من الدوافع الأساسية للبشر لتنظيم أنفسهم فيها, فهل مع تغير هذا الدور الذي يعد من الأدوار الأساسية التي بنيت عليها الدولة, سيظل لوجود الدولة التقليدية قيمة و مشروعية.
بالإضافة لذلك يطرح هذا التحول سؤالاَ حول تأثيره على مسألة الفجوة بين الطبقات في الوصول للعدالة فهل انخفاض تكاليف التقاضي الذي يرافق هذا التحول سيزيد من قدرة وصول جمهور أكبر للتقاضي, وتحديدا من الشرائح الفقيرة, أم أن مشكلة العدالة هي مشكلة أعمق مرتبطة بشكل اقتصادنا الحالي وآلية توزيع الثروات على المجتمع, وأن التحول الرقمي سيزيد من هذه الفجوة علما أن ما يقارب ال 37% من سكان الكوكب لم يسبق لهم ان استخدموا الانترنت, حسب تقرير صادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات.
إن تطور وسائل حل النزاعات يعكس تقدم المجتمعات، حيث أصبح التحكيم وسيلة حديثة تعبر عن قيم الحرية واحترام الإرادة الفردية, ويعكس نموذجًا يستند إلى حرية الاختيار ويتجاوز دور السلطة التقليدية, ويأتي دور التكنولوجيا لتقديم أدوات جديدة للتحكيم، أدوات تساهم في تقليل التكلفة وتعزيز إمكانية الوصول، ولكنها تؤثر على هياكل التحكيم والمؤسسات الدولية. في المستقبل، يُتوقع أن يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا أكبر، ما قد يطرح العديد من التحديات، ويتعين على المجتمعات التكيف مع هذه التحولات بروح من التفهم والتحديث لضمان استفادة الجميع منها بشكل عادل ومستدام