الوصول إلى العدالة هو مبدأ أساسي يؤكد على حق كل فرد في نظام قانوني عادل وفعال، وهو يجسد فكرة مفادها أن الجميع يجب أن يتمتع بالوسائل والفرص المتساوية بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية في الوصول إلى العدالة، لضمان حق الأفراد على تأكيد حقوقهم وحل نزاعاتهم، وهذه القاعدة تشكل إحدى أهم ركائز سيادة القانون، فعندما تكون عمليات التقاضي والإجراءات القانونية شفافة وخاضعة للمساءلة ومتاحة للجميع، فإن هذا الأمر يساعد على تمكين مجموعة أكبر من الأفراد إلى اللجوء للقانون، مما يؤدي إلى تعزيز الشعور بالثقة في النظام القانوني، وبطبيعة الحال إلى المزيد من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
تنص المادة 8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق كل شخص في اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصة لإنصافه الفعلي من أية أعمال تنتهك الحقوق الأساسية التي يمنحها إياه الدستور أو القانون، وقد تم اعتبار هدف تعزيز سيادة القانون على الصعيدين الوطني والدولي، وكفالة تكافؤ الفرص لوصول الجميع إلى العدالة هدف من أهداف التنمية المستدامة المنصوص عليها في الهدف 16 الغاية الثالثة منه، وكما تم التأكيد على أهمية الوصول إلى المساعدة القانونية كعنصر أساسي للحق في محاكمة عادلة والوصول إلى العدالة ضمن مبادئ الأمم المتحدة وتوجيهاتها بشأن الوصول إلى المساعدة القانونية في أنظمة العدالة الجنائية التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2012.
وفقا لدراسة لمشروع العدالة العالمي الذي تشمل تقديراته على أن من بين كل النزاعات القانونية التي تحدث سنويا فقط 15 بالمئة منها يقوم أصحابها في بداية إجراء قانوني وفي نهاية المطاف 5 بالمئة فقط تنتهي بإجراءات قضائية، فالحواجز الاقتصادية من كلف التمثيل القانوني وإلى رسوم المحكمة وتحديات أخرى تتعلق بعدد المؤسسات القانونية والمحاكم المحدود في بعض الدول وتوزيعهم الجغرافي وطبيعة التعقيد في الإجراءات القانونية وما تحتاجه من مدد طويلة خلال عملية التقاضي، فالعدالة بطيئة ومكلفة، وتحديات قلة الوعي بالقوانين والإجراءات عالميا أو حالات التهديد والخوف التي تمنع الناس بالمضي قدما بالإجراءات القانونية ويزداد ذلك في الدول والمناطق التي ينعدم فيها الأمان والاستقرار السياسي. مما يودي مجموع كل هذه الأسباب إلى فجوة حقيقة في العدالة، وبناء على ذلك، يمكن تعريف فجوة العدالة على أنها عدد الأشخاص الذين يسعون إلى حل مشكلة قابلة للتقاضي، ولكنهم غير قادرين على الوصول إلى نظام يوفر العدالة.
ويأتي التساؤل اليوم عن رأي التكنولوجيا والتحول الرقمي المتسارع في هذه القضية، فهل تعمل التكنولوجيا على تضييق أم توسيع فجوة العدالة؟
تتيح اليوم المنصات الرقمية نشر المعلومات القانونية، وتمكن الأفراد من معرفة حقوقهم وإجراءاتها القانونية بشكل أكبر، وتساهم المعلومات القانونية المتوفرة عبر الإنترنت والبرامج التعليمية والمواقع القانونية المتخصصة في تكوين أشخاص أكثر علما واطلاعا على المعرفة القانونية، مما يفتح الطريق أمام تجاوز فجوة الوعي القانوني شيئا فشيئا.
وتقوم أيضا التكنولوجيا بتسهيل الوصول إلى الخدمات القانونية عن بعد، وتقدم خدمة الاستشارات القانونية عبر الإنترنت متجاوزة حدود الجغرافية، وتقوم بتمكين الأفراد من الحصول على المزيد من الأدوات للوصول إلى العدالة، من خلال السماح بالقيام بالإجراءات القانونية بشكل إلكتروني وفي ذلك تخفيض للكثير من الكلف وتوفير للوقت، وتعمل أيضا على تسهيل أنظمة حفظ الملفات بشكل إلكتروني، وتبسيط العمليات الإدارية للمهنيين القانونيين، ومحصلة ذلك معالجة أسرع وأكثر كفاءة للقضايا، مما يقلل من التأخير والتراكم.
وعلي الجهة المقابلة لكل هذه المميزات تأتي التكنولوجيا بتحدياتها الخاصة فقد تلحق فجوة العدالة بفجوة أخرى أصعب متمثلة بالفجوة الرقمية التي تعبر عن الفجوة بين الأشخاص الذين لديهم القدرة على الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة والمنصات الرقمية والأشخاص الذين لا يستطيعون الوصول إلى مساحات الفضاء الإلكتروني، بالإضافة إلى أنه قد تجلب التكنولوجيا تحديات متعلقة بخصوصية البيانات الشخصية والتحديات الأمنية.
إن الوصول إلى العدالة ليس مجرد مفهوم قانوني، بل هو حق أساسي من حقوق الإنسان يدعم جوهر الديمقراطية، و عند النظر الى تعقيدات أنظمتنا القانونية، يتضح أن الحواجز التي تحول دون تحقيق العدالة يمكن أن تؤدي إلى إدامة عدم المساواة، مما قد يترك المجتمعات المهمشة محرومة وضعيفة داخل دوامة مستمرة، وفي السعي إلى مجتمع أكثر عدلا، يتعين علينا أن نعيد تقييم وتحسين أطرنا القانونية باستمرار، لضمان بقائها قابلة للتكيف والاستجابة للاحتياجات المتطورة لمختلف فئات السكان في العالم، وفي نهاية المطاف، فإن المجتمع الذي يقدر ويضمن الوصول إلى العدالة لكل افراده هو المجتمع الذي تتعزز به الثقة والمساواة والروح الحقيقية للديمقراطية.