من الألواح الطينية إلى العصر الرقمي 

يعتبر التطور التاريخي للقانون  شهادة على تقدم الحضارة الإنسانية وقدرتها على التكيف، فمن شريعة حمورابي إلى المُثُل التنويرية التي شكلت الأنظمة القانونية الحديثة، كان تطور القانون بمثابة استجابة ديناميكية للقيم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المتطورة وبالاضافة لكونه اداة يجادل البعض بفاعليتها للتغيير الاجتماعي، واليوم تستمد أنظمتنا القانونية المعقدة الإلهام من هذا التراكم التاريخي الغني، الذي يجسد سعي البشرية المتواصل إلى تحقيق العدالة والإنصاف في النظام المجتمعي. 

يمكن إرجاع أصول النظام القانوني إلى الحضارات القديمة، في بلاد ما بين النهرين ومصر، حيث لعب الاختراع الرائد للكتابة دورًا محوريًا، فسمحت هذه القفزة المبتكرة للمجتمعات بتدوين قوانينها واتفاقياتها القانونية، لتحل محل الاعتماد على التقاليد الشفهية، وظهرت الألواح الطينية و لفائف البردي كحافظ للمعرفة القانونية، ومما أدى إلى الوصول إلى القواعد واللوائح التي تحكم هذه المجتمعات القديمة من قبل شريحة مجتمعية أكبر، وبهذه الطريقة، بدأ النظام القانوني في التبلور، مع التركيز على التوثيق والحفاظ على المعرفة القانونية.

و بالتقدم سريعًا إلى القرن الخامس عشر، حدثت لحظة تحول أخرى في تطور النظام القانوني مع اختراع جوتنبرج للطابعة، أحدث هذا الجهاز المبتكر ثورة في نشر النصوص القانونية، ولم يعد الباحثون والممارسون القانونيون مقيدين بندرة النسخ المكتوبة بخط اليد وتكاليفها، وأصبح بإمكانهم الآن إنتاج المعلومات القانونية ومشاركتها على نطاق لم يكن من الممكن تصوره من قبل، ولم يقتصر دور المطبعة على إتاحة المعلومات القانونية على نطاق أوسع فحسب، بل عززت أيضًا توحيد الوثائق القانونية، مما سهل في نهاية المطاف نمو الخبرة القانونية.

ومن ثم أدخلت الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تطورات في مجال النقل والاتصالات، مما أدى إلى توسيع نطاق الأنظمة القانونية، حيث سمح تحسين السكك الحديدية والسفن للنظام القانوني بالتعامل بكفاءة مع القضايا التي تشمل أطرافًا من مواقع جغرافية بعيدة، وتم تكييف الإطار القانوني لاستيعاب هذه التغييرات، ووضع إجراءات جديدة لمعالجة الحالات ذات الأبعاد الوطنية أو الدولية.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، ظهر التلغراف والهاتف كأدوات اتصال غيرت قواعد اللعبة بالنسبة للمهنيين القانونيين، ومكن المحاميين في ذلك الوقت بتبادل المعلومات بسرعة عبر مسافات طويلة، مما قلل من الوقت اللازم للإجراءات القانونية، ولم يؤدي هذا التطور إلى زيادة كفاءة النظام القانوني فحسب، بل أدى أيضًا إلى تحسين تمثيل الأفراد في القضايا.

ولقد شهد القرن العشرون عصر أجهزة الكمبيوتر والإنترنت، مما يمثل فترة تحول جوهرية في المجال القانوني، فقد جعلت قواعد البيانات الإلكترونية والموارد عبر الإنترنت المعلومات القانونية في متناول جمهور أوسع، و أصبح الوصول الى الأبحاث القانونية أسرع وأكثر كفاءة، علاوة على ذلك، فإن طرق الاتصال الرقمية، مثل البريد الإلكتروني، والمراسلات بسطت العمل بين القانونيين والعملاء والمحاكم.

ومع تطور العصر الرقمي في القرن الواحد والعشرين، استمر النظام القانوني في التحول، وهذه المرة يمثل التحول الرقمي للمجال القانوني تحولًا عميقًا وبعيد المدى، ويعيد تشكيل كيفية عمل الممارسة القانونية وإدارة العدالة بشكل أساسي، وهو يشمل مجموعة واسعة من التغييرات، بدءا بتبسيط عملية إنشاء المستندات وإدارتها، الى الاعتماد على التوثيق الإلكتروني وأنظمة الإيداع الإلكتروني وحتى دمج الذكاء الاصطناعي في البحث القانوني وظهور منصات الخدمات القانونية عبر الإنترنت، ولم يؤد هذا التطور التكنولوجي إلى تبسيط العمليات المختلفة فحسب، بل أدى أيضًا إلى توسيع إمكانية الوصول إلى الخدمات القانونية، فقد أصبحت ممارسات العمل عن بعد وإجراءات المحاكمة الافتراضية تعد بالكثير، مما أدى ذلك إلى تغيير كيفية تعاون المتخصصين القانونيين وطريقة تعاملهم مع القضايا. 

وبالتوازي مع ذلك، نشأت مخاوف متزايدة بشأن الأمن السيبراني وحماية البيانات وما تشكله من تحديات للحفاظ على خصوصية الأفراد والمؤسسات، لكن بشكل عام تبشر رقمنة المجال القانوني إلى فترة حيوية جديدة قد تتميز بفرص رائعة وتحديات مركبة خلال رحلة التطور المستمرة للمجال القانوني في العالم.

عند تتبع هذه الرحلة التدوينية للقانون من ألواح حمورابي الطينية القديمة إلى عصر الثورة الرقمية، نلاحظ التطور العميق المستمر للقانون وما يجلبه ايضا من تحديات اجتماعية واقتصادية،  فمن أقدم القوانين المحفورة في الطين إلى الخوارزميات التي تغذي المنصات الرقمية، يبقى جوهر القانون انعكاسًا للقيم والاحتياجات المجتمعية، وقد تميزت هذه الرحلة بالابتكارات التي عززت إمكانية الوصول والكفاءة والترابط العالمي، وبالمقابل لم يكن هذا التطور خاليًا من التحديات، لكن التعامل مع هذه التحديات بشكل مدروس، وضمان استمرار مبادئ العدالة وسط هذا التغيير المستمر والذي سيستمر بالتطور يعد الهدف الاساسي.