بداية منصة أنسنة

تزداد كل يوم تحديات البشرية تعقيدا وتركيبا، وكل تحد يخلق مجموعة أكبر من الأسئلة المفتوحة، وفي عالم تولد فيه تخصصات معرفية جديدة بشكل يومي، تعيد تشكيل فهمنا للواقع المعاش، وفي التزامن مع الحوارات البشرية التي لا تنتهي حول فهم عالمنا والتسابق نحو تفسير وتصنيف الأحداث وما بين إعلان الجنازات حول موت بعض المصطلحات والمباحث المعرفية والتبشير المستمر لمواليد جديدة منها، تستمر الحوارات وميزتها ما تنتجه من تراكم معرفي، ففي كل حوار جديد يبدأ يكون مشعله الأول هو سؤال، والسؤال هو الذي يستفز الواقع، وفي طريقه نحو الجواب يجد له أصدقاء جدد من الأسئلة وهكذا تستمر الحلقة، فالسؤال هو البداية والنهاية.

تمر الكثير من المناطق في العالم في هذه اللحظة التاريخية بكسل فعل السؤال، بل تعيش باستقرار لا مثيل له في الإجابات المعلبة الجاهزة، تأتي هذه المنصة بمحاولة للناطقين باللغة العربية بتوفير مساحة لطرح الأسئلة والاستمتاع بنهاياتها المفتوحة واحتضان الفضول وتجاوز الخوف من اللايقين، وقراءة التساؤلات العالمية وتجربة اردائها الأسئلة الخاصة بمنطقتنا وحضاراتنا ليكون لنا تصورنا عن العالم، ولنساهم بنقل تساؤلاتنا وتحدياتنا في رحلة التطور البشري وبنفس الوقت القيام باستعارة نظارات الأمم المختلفة ورؤية الأمور بأعين مختلفة.

تستمر في هذه الرحلة البشرية مهمة إنتاج المعرفة وتحقيق نقلات دائمة في ذلك، وفي الوقت نفسه الذي يبحر فيه بعض البشر في التعمق بتخصصات مختلفة يأتي وبشكل مواز مهمة وجود مجموعة أخرى من البشر يقومون بالقراءة الأفقية والموسوعية بين تلك التخصصات المختلفة، فتحدياتنا المعاصرة عميقة ومتعددة الأوجه بطبيعتها، وتتطلب حلولاً تتجاوز حدود التخصصات والرؤى الفردية، وتتطلب خبرات في مجالات مختلفة، والنهج التعاوني الذي يضم متخصصين من مختلف المجالات بات أمر ضرورياً لتوفير مساحة لحلول شاملة ومستدامة، وهنا يأتي مصطلح “T shaped” بأن أفضل سلوك للتعلم يجب أن يكون على شكل حرف T بأن يجد الفرد مجالاً يرغب في الاختصاص والتعمق فيه، ويمثل ذلك (الخط العمودي لحرف T) وبالوقت نفسه أن يلتقط زهرة من كل بستان معرفي ليتوسع فهمه وإدراكه لحركة المعرفة وترابطها بين مختلف التخصصات، ويمثل ذلك (الخط الأفقي لحرف T).


تزداد فرص الإبداع والابتكار عند وجود قراءات تقاطعية بين المجالات المختلفة، فعند كل قراءة تقاطعية جديدة نفتح الباب أمام مساحات جديدة تنتظر من يريد أن يستمتع في اكتشافها، ومن يريد أن يخلق فرصاً جديدة خيالية ومبدعة، وربما تكون هذه الأفكار ونواتها مصدر إلهام لأفكار ريادية.


يمكن أن يؤدي المزج بين التكنولوجيا والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية مع بعضهم البعض أو حتى فيما بينهم إلى تطوير أفكار ومنهجيات ومنتجات جديدة إثر عملية تلاقح الأفكار المختلفة، وتسمح الرؤية التقاطعية باتباع نهج أكثر شمولاً لحل المشكلات، حيث يمكن للأفراد ذوي الخبرات المتنوعة معالجة القضايا المعقدة من زوايا مختلفة، مما يتوج ذلك على شكل حلول مبتكرة ربما لم تكن ممكنة ضمن حدود تخصص منفصل، وتشجع الخبراء من مختلف المجالات على تبادل الأفكار والمنهجيات والأساليب من خلال الجمع بين أفراد من خلفيات وخبرات ووجهات نظر متنوعة، فسيعزز هذا الأمر خلق بيئة تعاونية تعطي شعوراً متزايداً بوحدة الهدف والمصير كبشر على اختلافهم.


ومع استمرار القفزات التي تحققها التكنولوجيا والعلوم يوميا، تأتي المهمة الوجودية لدى البشر بمحاولة دمج العلوم الإنسانية في هذه الثورات المتتالية ومحاولة إيجاد تطور علمي ومعرفي يكون بينه وبين التجربة الإنسانية حد من الانسجام، ويضمن تكامل العلوم الإنسانية جنبًا إلى جنب مع التكنولوجيا والعلوم الطبيعية ومحاولة مراعاة السياقات الثقافية ووجهات النظر المختلفة عالميا خلال عملية التطوير المستمرة، تعترف هذه الشمولية بتنوع التجارب والتحديات الإنسانية، مما يعزز اتباع نهج أكثر دقة وحساسية ثقافيًا.


إن التقدم التكنولوجي السريع غالبا ما يتجاوز قدرة المجتمع على فهمه والتكيف معه، ومن خلال دمج العلوم الإنسانية في الحوار، يضمن ذلك اتباع نهج يحاول أنسنة التكنولوجيا أو خلق مساحة أفضل للتفاهم بين الإنسان والتكنولوجيا، وتشكل هذا أهمية بالغة في عصر يتطلب فيه التكيف بين الإنسان والتكنولوجيا حيث نعيش في زمن تترك فيه التكنولوجيات الناشئة آثارا عميقة على الأفراد والمجتمعات والأنظمة العالمية بأبعاد مختلفة.

قد يكون للتقدم العلمي والتكنولوجي في بعض الأحيان عواقب غير مقصودة، ومن خلال دمج العلوم الإنسانية في عملية صنع القرار، يمكن توقع الآثار السلبية المحتملة والتخفيف منها، ويضمن هذا النهج الاستباقي أن تتماشى التطورات مع المعايير الأخلاقية، وتساهم بشكل إيجابي في الاستعداد للأزمات والاستجابة لها، من خلال تبني نهج أكثر شمولية في التفكير والسؤال والبحث.

وجود منصة تحتوي هذه الموضوعات وتساهم في نشر وطرح منهجية التفكير الموسوعية والاستثمار بجيل محب للسؤال، قد يشجع ويثير الأفراد على ثقافة التعلم مدى الحياة، وعلى قيامهم على نحو مستمر بتوسيع معارفهم ومهاراتهم، ويعد التعليم المستمر أمرًا ضروريًا في عالم تتطور فيه المعلومات باستمرار، والحوار الموسوعي بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والتكنولوجيا ومختلف التخصصات يثري فهمنا للتجربة الإنسانية، ويساعدنا على فهم تأثيراتها على المجتمع، وفي التساؤل حول كيف يمكن لهذا التطور والحوار المعرفي أن يغير مفهومنا عن ذواتنا بشكل رئيسي, وأن يساهم في تشكيل فهمنا لما هو ممكن، وأن ينير المزيد من المسارات المعتمة.